جالت فكرة في رأس الرّحّال العماني سعيد بن ناصر المعمري بأن يرتحل انطلاقًا من سلطنة عُمان إلى بلدان أخرى عبر دراجة نارية. تلك الفكرة التي انطلقت قبل سنوات، تحولت شيئًا فشيئًا إلى واقع حقيقي، إلا أن مثل هذه الرحلات من غير المنطقي أن يخوض غمارها شخص واحد، فكان للمعمري رفقاء مؤنسون ومعاونون، تُشدُّ بهم عُقَدُ الرحلة الطويلة، فكانوا ثلاثيًّا، منطلقين نحو حدود الدول المتنوعة، عابرين البلدان والقارات.
انطلقت الرحلة فعليًّا بدايةً من الرابع من أبريل الحالي، وفق خطة رسمها المعمري ورفيقاه أحمد بن هلال السليماني، وسليمان بن حمد المحروقي، فمن سلطنة عمان إلى الإمارات، ثم السعودية، والكويت، مرورًا بالعراق، ومنها إلى تركيا، ثم جورجيا، فروسيا، ثم إلى إستونيا، ففنلندا، لتكون المحطة التالية النرويج، وبعدها نحو السويد، إلى الدنمارك، وألمانيا، وهولندا، فبلجيكا، ثم إلى سويسرا، ومنها إلى إيطاليا، ثم النمسا، وبعدها التشيك، وهكذا إلى المجر، وصربيا، وبلغاريا، ومرة أخرى إلى تركيا، ومنها إلى إيران، ليعودوا إلى سلطنة عمان حيث كانت الانطلاقة.
يقول سعيد المعمري: "بدأت الرحلة فعليًّا في الرابع من أبريل 2025، وخلال كل دولة كنت أقضي فترة للاستكشاف، والتوثيق، والراحة أحيانًا. الهدف الرئيسي كان الوصول إلى نورث كاب، وهي أقصى نقطة في شمال القارة الأوروبية. أما عن نهاية الرحلة، فهي مستمرة".
ينعكس خط الرحلة إلى أمدها الطويل، فبدراجات نارية تقطع تلك المسافات الألفية، ما يبعث بتساؤل حول كيفية توفيق الرحالة بين وظائفهم والتزاماتهم. يقول أحمد السليماني: "نرتبط بأعمال ووظائف، ولكننا قمنا بالتنسيق مسبقًا مع جهات العمل للحصول على إجازات رسمية أو فترات تفريغ، وحرصنا على أن تكون الرحلة في توقيت مناسب لا يتعارض مع التزاماتنا العملية أو العائلية".
تلك الرحلة الطويلة تخبئ خلفها الكثير من المفاجآت، ولا بد لروادها أن يكونوا على قدر كافٍ من وضع الخطط البديلة، تحسبًا لما قد يحدث من مفاجآت ومخاطر متنوعة، قد تكون أخطارًا بيئية، أو قطّاع طرق، أو مناطق صراع وتوترات.
يوضح الرّحّال سليمان المحروقي أن الترحال بالدراجة له خصوصية ومخاطر تختلف عن وسائل النقل الأخرى، مؤكدًا أنها تحتاج إلى مزيد من التركيز والانتباه في الطريق، على أن يراعي الرّحّال عدة أمور، منها إيقاف الدراجة في مكان آمن لتفادي السرقة، واختيار الفنادق التي بها مكان مخصص وآمن للدراجة، كما يُفضَّل عدم القيادة في الليل من أجل السلامة العامة وتفادي الطرق والأماكن المشبوهة. كما يُفضّل السفر الجماعي لأكثر من دراجة للمساعدة عند الحاجة.
ويقول المحروقي: "في أغلب الأحيان يُعد السفر آمنًا عند تجنُّب الدول التي بها قلاقل سياسية أو أمنية، ويُفضّل الاستفسار من نوادي الدراجات الموجودة في عُمان أو الخليج للحصول على التنبيهات ومتطلبات البلدان المراد السفر إليها، كما أنه من المهم الاستعانة بتطبيقات الطقس وخرائط جوجل للتأكد من عدم وجود إغلاقات للطرق بسبب الأحوال الجوية أو الصيانة".
يتطلب الترحال عمومًا تجهيزات كثيرة، وتهيئة نفسية وجسدية، وعدّة وعتاد، فليس من المستغرب أن تكون الرحلة التي يخوض غمارها حاليًّا المعمري والسليماني والمحروقي قد تم التجهيز لها قبل سنوات، لتنطلق بلا خلل أو نواقص قدر الإمكان.
يوضح سعيد المعمري أن الخبرة مهمة جدًا، والحماس وحده دون الخبرة والسؤال والتجهيز قد يكون له أثر سلبي، لذلك نجد الفريق الثلاثي متسلحًا بخبرات عديدة، منها معارف أساسية في صيانة الدراجة مثل تغيير الإطارات، والزيت، وتصليح الأعطال البسيطة، وكذلك في التخطيط الجغرافي من حيث اختيار المسارات حسب الطقس والوضع السياسي والحدود، إضافةً إلى خبرة في التعامل مع الناس واللغات. ومن الأمور المهمة كذلك إدارة الوقت والموارد.
ويقول سعيد المعمري: "الطريق طويل، وفيه أيام تكون صعبة أو مزدحمة أو من دون خدمات، فمن الضروري أن تكون هناك إدارة للوقت والموارد، والأهم كذلك أن تكون لدى الرحّال مرونة نفسية وصبر؛ لأن في السفر الطويل مواقف غير متوقعة بشكل يومي".
قبل أن تبدأ العجلات بالدوران، كانت هناك سلسلة طويلة من الإجراءات الرسمية التي كان لا بد من تجاوزها. فلكل دولة متطلباتها الخاصة، لكن بشكل عام، حرص الرحّالة على تجهيز جواز سفر ساري المفعول لفترة كافية، والحصول على دفتر المرور الجمركي، إلى جانب الرخصة الدولية ورخصة الدراجة الأصلية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل كان عليهم أيضًا إحضار ملكية الدراجة وتأمينها وفق متطلبات كل دولة على حدة، خاصة في الدول التي تمر بها الرحلة مثل دول الشينجن وروسيا وتركيا والعراق. كما أن ترجمة الوثائق -خصوصًا ملكية الدراجة- إلى اللغة الإنجليزية كانت خطوة ضرورية لتسهيل الإجراءات.
في بعض المعابر الحدودية، كانت هناك متطلبات إضافية كاستمارات الدخول والخروج أو الإفصاح الجمركي. ويؤكد الرّحّالة أن التحضير المسبق لهذه الأوراق أنقذهم من كثير من التحديات وأراحهم من الوقوع في مواقف معقدة على الطرق الدولية.
ورغم تلك التجهيزات، لا بد من مواجهة الصعوبات والمفاجآت، وهنا يقول أحمد السليماني: "بالفعل، واجهتنا عدة صعوبات، من أبرزها فترات الانتظار الطويلة في بعض المنافذ الحدودية، والتغيرات المفاجئة في الطقس، وتحديات الطرق الوعرة، وأحيانًا صعوبة الحصول على أماكن مريحة للمبيت، كذلك كان الإجهاد البدني من التحديات التي تعلمنا كيف نتعامل معها خلال الرحلة، التي تتطلب منا تجهيز الدراجات بكل ما يلزم من معدات السلامة مثل الخوذة والعاكسات الضوئية، بالإضافة إلى حقائب تحتوي على أدوات الصيانة والإسعافات الأولية، كما أننا نحمل معنا وجبات خفيفة غنية بالطاقة، ونعتمد على محطات التوقف للتزود بالماء والطعام".
بطبيعة الحال، لم يكن عبور الحدود على متن دراجة نارية مجرد مغامرة، بل كان درسًا في الصبر وفن التعامل مع الاختلافات الثقافية والإجرائية بين الدول. فالإجراءات تختلف من دولة لأخرى، بعض الدول -خاصة الخليجية- عبورها سريع ولا يتطلب سوى التأمين، بينما تمتد الإجراءات في بعض المراكز الحدودية إلى خمس ساعات، بحسب الدولة.
وبعيدًا عن الإجراءات الأمنية لعبور الحدود، واجه الرّحّالة شعوبًا عديدة، اقتربوا من أفرادها متلمسين مدى التعاون الذي كان السمة العامة عند أغلب من قابلوهم، مرحبين بهم ومقدّمين لهم ما يحتاجونه من مساعدات ووسائل معينة في الطريق.
تُذكرني هذه الرحلة برحّال أجنبي قابلته منذ عدة سنوات، كان يقطع دولًا عديدة بدراجة هوائية، وقد وصل إلى سلطنة عُمان. سألته حينها مستغربًا: هل قطعت كل تلك المسافة وأنت تدفع عجلة الدراجة الهوائية بقدميك؟ فأجابني بأنه قد كسر تلك المسافات أحيانًا بشحن الدراجة على الحافلات أو السفن في أماكن تحتم عليه ذلك لأسباب أمنية.
وحول ذلك، يخبرنا سليمان المحروقي بقوله: "الرحّالة الذين يقصدون الدول الإسكندنافية مثل النرويج أو السويد قد يضطرون لاستخدام العَبّارات لغياب المنافذ البرية، بينما في بقية أوروبا تتوفر وسائل الشحن على مدار الساعة، سواء عبر القطارات أو البحر".
أما عن المستلزمات، فيؤكد أن الدراجة تأتي أولًا، حيث يحمل معدات صيانة الإطارات وقطع الغيار تحسُّبًا لأي طارئ، بينما تأتي أدوات التخييم والطبخ في المرتبة الثانية؛ للحد من التكاليف، أو لتأمين الطعام الحلال في البلدان غير الإسلامية.
وأخيرًا، لا يزال الرّحّالة الثلاثي يجوبون البلدان، متطلعين إلى روعة تضاريسها وجمال طبيعتها، آملين أن يعودوا إلى أرض الوطن محمّلين بالدروس والذكريات والصور الموثقة لهذه الفكرة التي تحولت إلى مشروع يعكس معنى الصبر والإصرار وحب المغامرة.
0 تعليق