القراءة بأبعادها وأدوارها العظيمة في بناء الوعي للمجتمعات، تحوم التساؤلات الخارجة عن المألوف، بحثًا خلف الجانب المظلم للقراءة، وهو المحور الأساس الذي تطرق إليه الدكتور نايف بن نهار، ضيف معرض مسقط الدولي للكتاب في نسخته التاسعة والعشرين، في جلسة حوارية فتحت آفاقًا للتفكير مع جمهور غفير حضرها مساء أمس.
وجاء الحديث الذي قدمه الدكتور نايف بن نهار مختلفًا ومثريًا -كما اعتاد أن يقدم ذلك لجمهوره- وهو ما فتح أبوابًا للنقاش والسؤال، بل وسمح للفكر أن يدخل في كثير من التفاصيل التي غيبت الساحة الثقافية، فالكثير يدعو للقراءة، ولكن "بن نهار" في جلسته الحوارية كان يدعو بألا تأخذ القراءة دور التفكير، فهي خطورة كبيرة على الوعي البشري، حيث قال: "البعض لا يستطيع التكلم دون ذكر اسم المؤلف، وقام البعض بالاستغناء عن العقل للتفكير على حساب الآخرين" متطرقًا في حديثه لأوجه القراءة التي قد تقود القراء لمواطن خطيرة، تسلب الوعي من خلالها.
وأكد أن القراءة ضارة حين تكون بديلًا للعمل، وقال: "نحن نقرأ ليكون عيشنا أفضل، فالعلم هناك كثير يعلمون، ولكن من يعمل بما يعلم أو يتعلم؟، فمشكلة الناس دائما في العمل، حيث أصبحت القراءة أداة للتباهي". وأضاف: "أحيانًا أنت تستمر بالقراءة لأنك تبحث عن المتعة والدهشة، لكن ليس هدفي كمسلم هو القراءة، وهناك البعض ممن يقرأ ليستعرض ذلك للآخرين، مع إغفال أن القراءة هي جسر لرفع الوعي، ربما في بعض الأحيان تقرأ لتعي قضية معينة، وليست للمباهاة، فالحياة ليست بالهزل، وإنما هناك غايات لا بد العمل عليها، ولا بد من الانتباه لأهمية القراءة بالتركيز على هدفها الأساسي".
وركز "بن نهار" في حديثه على أهمية أن يجد الإنسان لنفسه سبيلًا في القراءة، كالتنوع في اختيار المجالات التي يقرأ فيها ليولد في داخله نضجًا معرفيًا، وقال: "حالة التجزئة جديدة، حيث إنها لم تكن موجودة في التاريخ، فالقارئ أو الباحث أو الدارس لا يجزئ في اختياراته، بل ينوعها، ربما فقط في العلوم الطبيعية نستطيع فهم التخصص الدقيق، ولكن فيما سواه لا يوجد تجزئة أو تخصيص".
وتطرق أيضا الدكتور نايف في حديثه لعلاقة القراءة بالنخبة، وأوضح أن كلمة النخبة كمصطلح فيه أبعاد ومعانٍ كبيرة جدًا، ولكنها في استخداماتها ودلالاتها أصبحت مختلفة تمامًا، حيث إنه صارت النخبة تطلق على "كل جماعة تجمع مشهدًا ما"، وأصبح معيار النخبة هو مستوى اختراعك لرأي المجتمع، وبعض الناس تكتب كتابات تتعمد أن لا تصل لكل الجمهور، فقط ليقال إنه يكتب للنخبة.
وقال بن نهار: "بعض الكتاب صار يكتب ما لا يُفهم، وكل خروج عن اللغة العامة يحتاج إلى دليل، بينما الأصل أن تكتب لتنفع الناس، ولكن كيف تكتب بما لا يفهمه الناس، حيث إن بعض الكتاب لديهم فوبيا السطحية، لهذا يلجأ لأن يختار لغة غير مفهومة تحاشيًا للوقوع في السطحية، ولكني أقول إذا كان القرآن ميسرًا فما بالك بغيره، القرآن يقرأه الجميع ويعقله، فماذا عن غيره!".
كما أشار بن نهار في محاضرته للحديث عن فكرة أنماط الناس الذين لا ينتفعون بالقراءة ولو أعطيتهم المنهجية، موضحًا أن التفكير له 4 أنماط وهي: نمط التفكير العلمي، والتفكير العقلي، والتفكير الرغبوي، والتفكير المؤامري، كما أوضح أن هناك شكلين للقراءة هما: القراءة العشوائية، والقراءة المؤصلة (التي تدخل البيوت من أبوابها).
وفتح الدكتور نايف أبوابًا للتساؤلات الخارجة عن المألوف مع الجمهور، حيث دار التساؤل عن ماهية الهوية، وما الفرق بين الهوية العربية والهوية الإسلامية، وأيهما الثابت والحتمي وأيهما المتغير، وكانت هذه التساؤلات ما جعلت تفاعل الجمهور ومشاركتهم الأفكار مجالًا للتفاعل الكبير.
وأشار بن نهار أيضًا في الجلسة الحوارية إلى قضية إضاعة الوقت في القراءة، حيث إن الكثير من الكتب لا تأتيك بمحتواها المباشر الذي يمكن أن يفتح لك بابًا للتفكير بعد القراءة، وإنما أنت تضيع في وقت القراءة بحثًا وسط الإسهاب عن المعنيين الضمني والحقيقي المستفاد من القراءة، وقال: "مثلًا في رسائل الدكتوراه نجد الخلاصة في آخر شيء، والباقي حشو، لهذا أنا أنتقد كثيرًا الكتابات الأكاديمية، كذلك بعض الكتاب يحاولون أن يكتبوا أكثر لتزداد عدد الصفحات، لا لتقديم المفيد والمفهوم والمختصر، وللأسف كثر ممن يقرؤون يقولون نحن نصل للصفحة الخمسين دون أن نعرف ماذا يريد الكاتب أن يقول، لهذا نحن نبحث عن الكتب التي تكون مباشرة، وإيجاد الإجابة الدقيقة للسؤال: ما مدى مطابقة الكلام المقروء للواقع المرئي؟".
وتطرق للحديث عن بحثه المكثف في سورة الفاتحة التي تستدعي التوقف الطويل أمامها والتفكر في مفرداتها ودلالاتها.
تجدر الإشارة إلى أن الدكتور نايف بن نهار هو أكاديمي ومفكر قطري، وأستاذ جامعي في مجالات الفلسفة والفكر الإسلامي، وقد عمل مديرًا لمركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، وله عدد من المؤلفات والأبحاث التي تتناول موضوعات مثل الفلسفة السياسية، والفكر الديني، والحداثة، ويتميز أسلوبه بالجمع بين التحليل الفلسفي العميق والاهتمام بقضايا الواقع المعاصر، كما عُرف بمشاركاته الإعلامية ومداخلاته الفكرية التي أثارت نقاشات واسعة في العالم العربي، وأبرز مؤلفاته: كتاب "مفهوم الدولة الإسلامية"، وكتاب "مدخل إلى الحاكمية"، وكتاب "سؤال الحرية"، وكتاب "مستقبل القيم".
0 تعليق