لا تسكنوا الجرح.. عالجوا أسبابه قبل أن ندفع الثمن

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

في خضم النقاش المتسارع حول قرار وزارة التربية والتعليم القاضي بتأنيث الصفوف الأولى حتى الصف السادس الابتدائي، تبرز على السطح تساؤلات جوهرية تمس صلب العملية التربوية ومستقبل تكوين الشخصية الذكورية في المجتمع. ففي وقت يبدو فيه القرار وكأنه استجابة لحالة التدهور الواضحة في مستوى مدارس الذكور الحكومية، إلا أن جوهر القضية أعمق من مجرد «تحسين بيئة تعليمية»، بل يتعدى ذلك إلى إعادة تشكيل الهوية النفسية والاجتماعية للطفل الذكر في أخطر مراحل نموه.اضافة اعلان
كثير من مدارس الذكور اليوم تعاني فعلا من تراجع الأداء الأكاديمي، وانفلات السلوك، وضعف في الانضباط، وتدني مستوى القدوة التربوية. لكن المشكلة ليست في جنس الطالب، بل في ما تعرضت له هذه المدارس من إهمال مزمن، وغياب الرقابة، وتهالك في البنية المؤسسية التربوية. إن القرار بنقل الطفل الذكر إلى بيئة أنثوية بالكامل بحجة أن الطالبات يحققن نتائج أفضل، لا يعدو كونه حلا تجميليا مؤقتا يشبه تماما إعطاء مهدئ لمريض يعاني من نزيف داخلي، سيتحسن مؤقتا لكنه سرعان ما سينهار. نحن لا نضع أيدينا على الجرح الحقيقي، بل نغطيه بضماد ظاهري، دون أن نطرح الأسئلة الجوهرية: لماذا انهارت مدارس الذكور؟ أين غابت الكفاءة؟ ولماذا أصبحت هذه المدارس طاردة للنجاح وجاذبة للفوضى؟
الباحث في التربية لا يمكنه أن يغفل عن نظرية النمو النفسي الاجتماعي للعالم «إريك إريكسون»، التي تنبه إلى أن الطفل في مرحلته الابتدائية يمر بما يسمى «مرحلة الكفاءة مقابل الشعور بالنقص»، وهي مرحلة بالغة الأهمية في بناء الثقة بالنفس وتشكيل الهوية. في هذه المرحلة، لا يتعلم الطفل من الكتب فقط، بل يتعلم من الأشخاص، من نماذج يعيشها يوميا ويقلدها سلوكيا. حين لا يجد الطفل الذكر في محيطه التربوي من يشبهه، من يمثل له الرجولة والقيادة، فإنه ينمو وهو يشعر بالنقص والاغتراب عن ذاته. البيئة المؤنثة بالكامل لا تعني بالضرورة بيئة راعية، بل قد تتحول إلى بيئة مفصولة عن احتياجات الطفل النفسية، لأن الطفل الذكر يحتاج إلى مزيج من الحزم والحنان، إلى قدوة تُشعره بالقوة الأخلاقية والمسؤولية.
في دول مثل فنلندا، والتي تعد من بين الدول الأنجح في نظم التعليم، لم تلجأ المؤسسات التربوية هناك إلى تغيير جنس الكادر التعليمي لحل مشكلات التعلّم لدى الذكور، بل اختارت طريق الإصلاح من الداخل. 
رفعت مستوى تأهيل المعلمين الذكور، ودعّمتهم بالتدريب المستمر، وحرصت على حضورهم الإيجابي في المراحل المبكرة من التعليم، لأنها آمنت بأن الحل ليس في تغيير البيئة، بل في إعادة توازنها. أما في بريطانيا، فقد أثبتت دراسات جامعية أن الأولاد الذين يحظون بوجود معلمين ذكور في الصفوف الأولى يظهرون مستويات أعلى في القيادة والتعبير عن الذات والقدرة على ضبط السلوك، بعكس أولئك الذين نشأوا في بيئة مؤنثة بالكامل، حيث بدت آثار التردد والخضوع أكثر وضوحاً.
إن غياب القدوة الذكورية في السنوات الست الأولى من حياة الطالب المدرسية يُعد تدخلاً خطيراً في تشكيل هويته النفسية. كيف سينمو هذا الطفل مدركاً لدوره كذكر بالغ، مسؤول، قادر على المواجهة، إذا لم ير نموذجا لذلك في بيئته اليومية؟ وما الذي نغرسه في ذاته حين نقول له ـ بشكل غير مباشر ـ إنك لن تتعلم إلا في مدرسة للإناث، وتحت إشراف المعلمات فقط؟ إنها رسالة تربوية مشوشة، وقد تكون باهظة الثمن على المدى البعيد.
ثم هناك البعد المؤسسي، والذي يغيب كثيراً في النقاشات العامة. ما سبب تراجع التعليم في مدارس الذكور؟ هل هو ضعف الحوافز للمعلمين؟ هل أصبح التعليم وظيفة غير جاذبة للرجال بسبب غياب الامتيازات والتقدير؟ هل إجراءات التعيين تخضع لمعايير الكفاءة فعلاً، أم أننا نعيش زمن التعيينات العشوائية؟ وهل مخرجات الجامعات من المؤهلين الذكور تراجعت في الجودة، أم أن المشكلة أعمق في آلية إعداد المعلم منذ الجامعة؟
في تجارب تعليمية ناجحة كالتجربة السنغافورية، واجهت الدولة تحديات مماثلة، لكنها لم تُحل عبر التفاف على أصل المشكلة، بل اتخذت خطوات عملية بتعزيز مكانة مهنة التعليم، ورفع رواتب المعلمين، وتطبيق اختبارات تأهيل صارمة قبل التعيين، ومراقبة الأداء باستمرار. هكذا تكون المعالجة، وهكذا تُبنى المدارس التي تخرّج أجيالاً لا تعرف فقط كيف تقرأ، بل تعرف كيف تكون مسؤولة.
التعليم ليس مواد دراسية فقط، بل عملية بناء عميق للشخصية، وتشكيل للهوية، وغرس للقيم. فإذا اختزلناه في تلقين، وتركنا الجانب النفسي والاجتماعي للطفل دون اهتمام، فإننا ننتج جيلاً يعرف كيف يحل المعادلة، لكنه لا يعرف كيف يحل مشاكله الحياتية. يعرف كيف يقرأ، لكنه لا يعرف من هو.
لا أحد يعارض التطوير، لكن ما نحتاجه ليس حلولاً آنية، بل جرأة في مواجهة الأسباب الحقيقية. علينا أن نعيد الاعتبار لمعلم الذكور، نؤهله، نحفزه، نراقبه، نحاسبه، ونمنحه المكانة التي يستحقها في بناء الأجيال. علينا أن نعيد الروح إلى مدارس الذكور لا أن نهرب منها. فالهروب من المشكلة لا يلغي وجودها، بل ينقلها إلى مكان آخر، وربما يجعلها أكثر تعقيداً في المستقبل.
نحن في لحظة مفصلية، فإما أن نعالج الجرح من جذوره، أو نواصل تسكينه بقرارات تجميلية، حتى نجد أنفسنا ندفع الثمن من هوية أبنائنا، وثقة رجال المستقبل بأنفسهم.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق