موروث بحري يعكس العلاقة الوطيدة بين الإنسان والبحر

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

إن الحديث عن التجديف والقوارب التقليدية ينبثق من عمق تراث بحري عُماني ثري سطره العُمانيون عبر حقب التاريخ الإنساني والحضاري وذلك لما تتميز به سلطنة عُمان من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فمحافظة مسندم لها موقع جغرافي فريد ومتميز جعلها تتبوأ محل الريادة والصدارة في عالم البحار، واتضح هذا جليا من خلال التقدم الذي وصلت إليه سلطنة عُمان في صناعة السفن بأنواعها وأشكالها وأحجامها وبهذا ترك العُمانيون تراثًا بحريًا ضخمًا خالدًا كان وما زال وسيبقى محل فخر واعتزاز لأبناء عُمان يحفظه الجميع وتتناقله الأجيال المتعاقبة.

لذا دأب مكتب محافظ مسندم خلال السنتين الماضيتين وضمن أجندته في فعاليات «الشتاء مسندم» على تنظيم سباقات لقوارب التجديف مع تنظيم العديد من الفعاليات والأنشطة المصاحبة والموجهة لجميع فئات المجتمع وذلك للتعريف بأنواع قوارب التجديف وأهميتها وربط الحاضر بالماضي وتعريف السياح بالتاريخ البحري للمحافظة.

تراث بحري

الدكتور راشد بن محمد حروب الشحي الباحث التاريخي والمهتم بالموروث المادي وغير المادي قال: إن قوارب التجديف التقليدية لها قيمتها التاريخية كونها تعبّر عن أصالة سكان محافظة مسندم وارتباطهم بالبحر وبهذا تعد جزءًا من التراث البحري ومفردة من مفردات الموروث الثقافي وإحدى الركائز الأساسية التي تشكّل هويتهم وحضارتهم وتاريخهم؛ لأنها تعبّر عن أسلوب حياة سكان محافظة مسندم منذ أقدم العصور لما تحظى به من أهمية استراتيجية كبيرة من خلال إطلالتها على مضيق هرمز الممر المائي الأكثر حركة في العالم، فقوارب التجديف التقليدية هذه لا تزال تحظى بمكانة مرموقة في قلوب الأهالي لما لعبته من دور مهم في حياتهم على مر التاريخ، حيث لم تكن هذه مجرد وسيلة نقل بحري وصيد وتجارة وإنما نتاج خبرات ومهارات إنسانية علمية وعملية تناقلتها الأجيال حاملة في طياتها رسائل وقصص كفاح ونجاح وعمل شاق، وتوغل وتواصل مع أعماق البحار بتحدٍ وصبر وثبات.

إتقان الصنعة

وأكد الدكتور راشد حروب في حديثه على الدور الذي تقوم به قوارب التجديف التقليدية، حيث إنها تسهم في تعزيز وإحياء التراث وذلك من خلال إقامة المهرجانات البحرية السنوية والفعاليات التراثية الثقافية وسباقات رياضة التجديف البحرية سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي وذلك لإبراز الدور التاريخي لمحافظة مسندم وسلطنة عُمان عمومًا في هذا الجانب وما تحمله في طياتها من رموز وذكريات ماضٍ عريق وحياة كفاح، وبهذا ستتم إعادة إحياء التجديف بالقوارب التقليدية، وترسيخ القيم الأصيلة لدى الأجيال المعاصرة وتعريفهم بتاريخهم وهذا بدوره يتيح للناس أجمع فرصة معرفة تفاصيل جزء من الحياة بمسندم كون التجديف بهذه القوارب التقليدية تعد مصدر جذب سياحي؛ لأنها رياضة تعكس روح المكان وأهله، وذلك من خلال تنظيم رحلات بحرية باستخدام القوارب التقليدية وإقامة الفعاليات البحرية لهذه القوارب التي تمنح الزوار فرصة للتفاعل مع الحرفيين والتعرف على حياة البحر، مضيفًا: إن محافظة مسندم عمومًا بما تزخر به من مقومات جذب سياحي متنوعة برًا وبحرًا وسهلًا وجبلًا، وبجانب ما تشكله هذه الأنشطة من رافدٍ اقتصاديٍ ستسهم في إعادة تصنيع القوارب التقليدية، وإيجاد فرص عمل للحرفيين ذوي المهارة والخبرة في صناعة هذه القوارب مع الحفاظ على الحرفة من الاندثار ودعم نقل المهارات اليدوية التقليدية عبر الأجيال وتذكيرهم بحياة الأجداد وما أتقنوه من فنون النجارة وأساليب الملاحة التقليدية، وما يرتبط بها من الاعتماد على القوة البدنية واتجاه الرياح وغير ذلك مما يرتبط بها من عوامل ومقومات طبيعية.

إرث ثقافي

وقال عبدالواحد الكمزاري: «تتميز محافظة مسندم بنظام بحري متميز، كما تعتبر مهنة الصيد مهنة متأصلة عند أهل البحر في جميع مناطق ولايات محافظة مسندم الساحلية، وقد زاولها الأجداد منذ القِدم كمهنة رئيسة لضمان لقمة العيش، وما زالت تُمارس إلى اليوم بالطقوس نفسها رغم التطور الذي حدث على وسائل الصيد، حيث كانت الوسائل بسيطة وتقليدية تصنع من مواد وأدوات محلية في عدة مناطق من المحافظة من قبل عائلات معروفة، وقد حافظ أبناء محافظة مسندم على هذا التراث الأصيل إلى يومنا هذا وهي نشاط مجتمعي يعكس الإرث الثقافي التراثي الأصيل المرتبط بأهل البحر وبسبب التطور والنقلة السريعة على نوعية القوارب المستخدمة في مهنة الصيد جعل الكثيرين التخلي عن قواربهم التقليدية القديمة، وعدم الاهتمام بها مما جعلها عرضة للتلف والزوال ولكن بفضل اهتمام الحكومة فقد سعت الجهات المعنية في إحياء بعض الموروثات القديمة مثل سباقات التجديف للقوارب التقليدية لتسليط الضوء على أهمية هذه القوارب وحث أبناء المحافظة على صيانتها والمشاركة بها في مثل هذه المناسبات وذلك لإحياء تراث الآباء والأجداد وعلاقتهم الوطيدة بالبحر وتحفيزهم على صونه والحفاظ عليه برونقه الأصيل».

إحياء التراث البحري

ويقول عمر بن علي الشحي باحث تاريخي: «منذ القدم شكّلت جغرافية محافظة مسندم نقطة التقاء حضارية بارزة، حيث لعب البحر دورا مهما في صياغة ملامح الحياة اليومية لسكانه فالبحر كان مصدرا للرزق والمعرفة والتبادل الثقافي، حيث يعكس تاريخ الملاحة البحرية في محافظة مسندم مسيرة طويلة من التطوير والتحدي صاغها الإنسان في مسندم وخبراته التي اكتسبها على مر السنين». موضحا أن التراث البحري في محافظة مسندم جزء أساسي ومهم لتشكيل الهوية الثقافية لدى أبناء محافظة مسندم، حيث ارتبطت حياة المجتمع الساحلي بمحافظة مسندم عبر الصيد عن طريق قوارب التجديف التقليدية وللحفاظ على هذا الإرث ونقله إلى الأجيال القادمة ما زال أبناء محافظة مسندم يزاولون صناعة قوارب التجديف التقليدية، وينظّمون سباقات سنوية لهذه القوارب؛ لأن المحافظة على هذه الصناعة والسباقات تسهم في تعزيز الوعي بأحياء التراث البحري.

اعتزاز بالهوية

وتقول مريم بنت أحمد الشحية رئيسة قسم الترويج السياحي بإدارة السياحة والتراث بمحافظة مسندم: إن قوارب التجديف التقليدية تعد من الرموز الثقافية التي تُجسّد عمق العلاقة التي تربط سكان محافظة مسندم بالبحر، حيث أسهمت هذه القوارب على مر العصور في دعم الأنشطة البحرية من صيد وتنقل وتبادل تجاري، وشكّلت جزءا أصيلا من الهوية البحرية للمجتمع المحلي، وتتميز محافظة مسندم بكونها من أبرز المناطق العُمانية في صناعة القوارب والسفن التقليدية إذ توارث الحرفيون فيها مهارات دقيقة في بناء قوارب التجديف بمواصفات تلائم طبيعة البحر وظروف الإبحار. وأضافت رئيسة قسم الترويج السياحي بإدارة التراث والسياحة بمحافظة مسندم: إن هذه القوارب تلعب اليوم دورا مهما في تعزيز وإحياء التراث البحري من خلال مشاركتها في الفعاليات الوطنية والمهرجانات البحرية التي تسلّط الضوء على هذا الموروث الثقافي الغني وتُعرّف الأجيال الناشئة والزوار بتاريخ محافظة مسندم البحري، كما تسهم في ترسيخ مفاهيم الاعتزاز بالهوية وتُحفّز على صون الحرف التقليدية وتعزيز السياحة الثقافية في المنطقة وفي ختام حديثها، أشارت مريم الشحية إلى أن إحياء هذا النوع من القوارب لا يمثل فقط حفاظا على وسيلة نقل تقليدية بل هو في حقيقته حفاظ على قصة حضارية عريقة متجذرة في وجدان أبناء محافظة مسندم. محمد بن درويش الشحي من ولاية بخاء يقول: إن سباق قوارب التجديف يعتبر من التراث البحري الأصيل، وأن محافظة مسندم من المناطق السباقة قديما لعمل هذه المسابقات وخاصة في المناطق البحرية وولاية بخاء لها مشاركات في هذا المجال الحيوي، وتسمى هذه القوارب المستخدمة في السباقات البتيل، حيث تعد هذه السباقات من التراث البحري العريق والجميل، ويتم التنافس منافسة شريفة بما ينم عن رقي وسمو المتنافسين من النواخذة والجديفة، وأتمنى أن تعود مثل هذه المنافسات بأكثر حيوية بين أبناء المحافظة في ولاياتها الثلاثة بخاء وخصب ودبا ونيابة ليما وكمزار وبمشاركة جميع المناطق البحرية لتعريف الأجيال الحالية والقادمة عن المسابقات والمنافسات بقوارب التجديف.

تعزيز القيم الاجتماعية

محمد بن عبدالله الكمزاري من منطقة كمزار ولاية خصب يقول تتمتع سباقات التجديف البحرية بأهمية كبيرة للمجتمع وإحياء التراث، حيث تمثل دورا حيويا في تعزيز القيم الاجتماعية والثقافية والتاريخية، حيث يعد التجديف من الممارسات القديمة التي ارتبطت بحياة الصيد والتنقل والتجديف يربط الأجيال بماضيهم وتراث أجدادهم كما أن التجديف يعزز روح العمل الجماعي والتعاوني، كما أن إقامة سباقات التجديف تعتبر من الفعاليات الترفيهية والجاذبة للسياح التي يصاحبها تنظيم أنشطة مصاحبة تسهم في إضفاء أجواء من المرح، وفي الوقت نفسه تربط الناس بتاريخهم وماضيهم البحري الأصيل.

استدامة الإرث الثقافي

ويقول يوسف بن عبدالله الشحي من نيابة ليما: إن قوارب التجديف التقليدية تعتبر نبض البحر وروح التراث في محافظة مسندم حيث تواصل محافظة مسندم جهودها الحثيثة في الحفاظ على الموروث البحري الذي شكّل جزءًا أساسيًا من هوية المجتمع المحلي، ومن أبرز معالم هذا التراث قوارب التجديف التقليدية التي لا تزال حاضرة بقوة في الفعاليات الثقافية والمناسبات الوطنية، وتُعد قوارب التجديف أكثر من مجرد وسيلة تنقل فهي رمز للترابط بين الإنسان والبحر وتجسيد لقصص الأجداد الذين اعتمدوا عليها في التنقل والصيد والتجارة عبر الخلجان والمضائق، ويحرص أهالي محافظة مسندم على إحياء هذا الموروث من خلال تنظيم سباقات تراثية تشهد إقبالًا واسعًا من الشباب والمهتمين. وأضاف يوسف الشحي: إن ورش بناء القوارب التقليدية تسهم في نقل المهارات الحرفية الأصيلة من جيل إلى جيل، وتوفر مساحة لتعليم الشباب أساسيات صناعة الخشب البحري وفنونه، مما يعزز استدامة هذا الإرث الثقافي. وأوضح يوسف الشحي أن دور هذه القوارب لا يقتصر على الجانب المحلي فقط، بل أصبحت عنصر جذب للسياح الراغبين في تجربة الثقافة العُمانية عن قرب، ما يسهم في تنشيط السياحة البحرية، ويُعرّف الزوّار بتاريخ المنطقة وأصالة أهلها. إن قوارب التجديف ليست فقط مراكب خشبية، بل هي ذاكرة بحرية حية، تنقل الحكايات القديمة إلى حاضرٍ نابضٍ بالانتماء، وتؤكد أن التراث عندما يُصان يصبح جسرًا يربط الماضي بالمستقبل.

إحياء الماضي

وقال أحمد بن صالح أحمدوه من منطقة غمضاء بولاية بخاء: استخدمت القوارب التراثية البحرية لإحياء الماضي القديم، حيث كانت عصب الحياة البحرية في المناطق الساحلية قبل وجود المكائن الحديثة وبالتالي فهي مرتبطة بحياة الناس والصيادين في هذه المناطق ومسابقات التجديف تحيي هذا التراث البحري العريق، وتعيد إلى الأذهان صور الكفاح التي عاشها أبناء هذه المجتمعات سابقًا، كما أن سباقات التجديف اليوم باستخدام المراكب التقليدية تعد فرصة لتعريف أبنائنا بماضيهم وتراثهم البحري العريق.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق