شكراً للحمير

السبيل 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مايو 6, 2025 2:19 م

ناهض الوشاح

(*) غزة / مخيم البريج – بلوك 9

لم يعد في وسعي البقاء على قيد الانتظار أكثر، الموت يخطف معظم من رأيتهم أو عرفتهم، من لم يمت في القصف، أشهر صدره وامتشق روحه أمام رصاصة قنّاص مرتجف، ومن نجا من طائرة الكابتر ضمه البرد في أحضانه وافترس الجوع أحشاءه.
لا أُريكم ما أرى، بل أعيش ما أرى! ولا أستطيع تغير ما أرى، مُبعثر بين الركام لا أبحث عن أشلاء ولا أحياء تبقى هنا، كل أهالي حي السلطان والشابورة والبرازيل في منطقة رفح خرجوا بحثا عن لقمة حياة!
أنثر عيوني على البيوت، كانت هنا بيوت وشوارع! كان هنا مستشفى النجار، وقبل شهور ركضت وأختي وفاء نحمل أمي التي غطتنا بجسدها حين سقط صاروخ غادر على بيت مجاور لنا، بيت صديقي حُذيفة الذي كان يحلم أن يصبح طيّارًا ليحلق فوق كل أرض وتحت كل سماء، هنيئًا يا حذيفة فقد حلقت فوق كل السماوات.
هل هذه غزة؟!
هنا ولدنا، وهنا ترعرعت أرواحنا بين المدارس والمساجد، وتعلمنا سيدة اللغات، وكتبنا أجمل الكلمات، وحفظنا سورة الإسراء والأحزاب والحجرات.
لم يعد هناك مدارس ولا مساجد! حتى الكتب التي كنا نتسابق إلى قراءتها ذهبت طعاما للنار حتى يأكل من تبقى من الصغار!
أتحسس جسدي، ما زلت على قيد الحياة، سقوط صاروخ على مخيم النصيرات، أبحث عن من أعرفهم، كانت هنا تسكن خالتي وأولاها، أين ذهبوا؟!
ألملم المتبقي مني، وأواصل البحث عن أحياء تحت الركام، رائحة الدخان مخلوطة برائحة الدم المسفوح في الشوارع، صراخ النساء وبكاء الأطفال، وهناك شاب يضم أمه ويبكي قهرًا: “أمانة ترجعي يما!!”.
لا كلمات تصف ما نعيشه، ولو جئنا بابن الأثير نفسه لعجز عن وصف حالة شعبي يموت قصفًا وحرقًا وجوعًا، والعالم ينظر إلينا لا يُحرك ساكنًا!
أين الأمّة التي تقول عن نفسها مسلمة؟
“مين ضل عايش” صدى الصوت يُمزقني وسيارات الإسعاف لا تستطيع الوصول إلى المكان، دخلت مع الجموع أحمل معهم ما تبقى من لحم وعظم متناثر على الجدران والأسطح، وجسدي لا يحملني وأكاد أسقط من شدة الجوع والألم، أحدهم ينتحب: “جيبولي بنتي”. أنظر إليه، أقترب منه أحاول ضمه وتهدئته، لكنه ينحني على الأرض، ويصرخ: يا إلهي! خذني إليك. ألتفت خلفي وإذ بابنة خالتي تذرف دموعها على بقايا جسد والدها وهو تهمس: “أمانة يابا تصحى!!”، أمد يدي المرتجفة نحوها؛ علّها تعرفني فلا هي هنا، ولا أنا هناك، لأدرك أن الإنسان من غير الممكن أن يتعاطف مع ألم غيره على نحو كامل مهما حاول.
أحمل أجسادًا لا أعرفها، السيارات محترقة، وكل الطرق المؤدية إلى مستشفى البريج محطمة، ولا مجال إلا لعربات تجرها الحمير اسمها في غزة “الكاره”.
أجساد بعضها فوق بعض في العربات تجرها الحمير، تسير ونحن نسير خلفها نبحث عن مكان ندفن المتبقي من أجساد نعرفها ولا نعرفها.
جسدي مثخن بالجوع، ورأسي ممتلئ بأسماء الشهداء والمشردين والمآسي المرعبة، أحاول الوصول إلى مكان توزيع الطحين لعلّي أحظى بكيس صغير أعود به لأناس ينامون معنا في نفس الخيمة في دير البلح، ولا أقوى على المشي السريع، أركب حمارًا يبحث مثلي عما يأكله من خشاش الأرض، يسير ولا أعرف الطريق، لكنه إلى الأمام، كدنا نصل إلى مركز وكالة الغوث لتوزيع الطحين، الناس تتكدس فوق بعضها البعض، وكل الأيدي مفتوحة تنتظر بلهفة، كدنا نصل ولا يفصلنا إلا مسافة صغيرة حتى ضجت الأرض، واشتعلت السماء بدخان كثيف.

لم أدرك ولم أفهم أين ومتى وكيف قصفت طائرات الكابتر تجمهر الناس! كنت مُبللًا بالحزن والدم، وجسد ثقيل يجثم فوقي، كأني مت! لست أدري تحملني الأيدي لا أعرف أين تأخذني؟!
أفتح عيني رويداً رويداً، يُصيبني فرح طائش، إنه خالي يجلس بقربي، يقول لي: “الحمد لله على سلامتك، أنقذك الحمار”.
وصوت مكبرات الصوت حول الخيام: الله أكبر! الله أكبر!

نحن إزاء فتح كوني، وإنه جهاد نصرٌ أو استشهاد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق