كرسي مهتز

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هناك بقعة صغيرة ما زالت تشغل حيزاً في ذاكرة كثير من الناس، فيها مجموعة من الطاولات التي تركت قطع الدومينو فيها عاهات دائمة، ومجموعة من الكراسي المهتزة التي أضعفها ثقل النقاش، وأدوات الشاي ورائحة القهوة التي تغلي على نار هادئة، وغالباً ما تجتمع كل هذه الصور في مكان دافئ صيفاً وشتاء، إنها بلا شك المقاهي القديمة الخالية من الواي فاي والشاشات الكبيرة.

قبل أيام لمحت مقهى صغيراً في أحد الأحياء القديمة، حيث يبدو أن الزمن توقف بالمكان سنين طويلة، فلا شاشات ولا موسيقى ولا طعام غير المشروبات التقليدية، وما زال هناك راديو قديم يصدح بصوت الإذاعة، ورجل كبير يدخن الأركيلة، وآخر يجلس مع رفيقه وهو يقلب السكر في الشاي، ورنين الملعقة، كأنه آلة للسفر عبر الزمن، تأخذك إلى زمن كانت فيه العلاقات الاجتماعية واقعية، وليست أون لاين، والمشاعر ليس قابلة للحذف كما هي اليوم، فظهر حنين وشوق إلى الماضي، ولا أدري هل هذا بسبب مرارة الحاضر، وعدم وضوح المستقبل، أم لحسن في الماضي؟!

لكن بمراجعة موضوعية سريعة وبعيدة عن المشاعر لوضع المقاهي بين الماضي والحاضر، سنجد أن مقاهي اليوم يذهب إليها الناس لمشاهدة مباريات كرة القدم بالدرجة الأولى أو لتناول طعام الغداء أو العشاء والتدخين، أما في الماضي، فكانت المقاهي عبارة عن مقرات لوكالات الأنباء فهي بنك المعلومات، وسوق للثقافة والتندر، ومركز للسياسة والفلسفة، هناك تجد خلايا لتحليل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أما إشارة الواي فاي فلم تكن موجودة وبدلاً عنها كانت هناك إشارات تصدر من شخص سعيد يعبر عنها بضحكة مرتفعة الصوت، أو تعيس يتنهد بحسرة تشعر من حوله، وسرعان ما يحصل على شخص يقول له: "فيك شي..محتاج شي" أما اليوم، فلو احترق جزء من المقهى فلن يشعر به أكثر الموجودين؛ لأنهم منهمكون في شاشات هواتفهم، مقاهي الماضي شهدت ولادة كثير من قصائد الغزل والرثاء والحماس، عندما تشتعل فيها أحاسيس الشعراء، ومقاهي اليوم يصور فيها كوب القهوة لينشر في إنستغرام، مقاهي الماضي تجد مالك المقهى يعرف بالتفصيل وضع كل واحد من رواد مقهاهٍ، لكنه لا يفصح لأحد، مقاهي الماضي تحيط بها البساطة من كل اتجاه، ومقاهي اليوم كل زاوية فيها وضع ديكور لتكون زاوية تصوير.

كل ما كان يجري في مقاهي الماضي أنشطة للتواصل الحقيقي بين البشر، واليوم تحولت المقاهي إلى مراكز للعزلة الاجتماعية، المشكلة ليست في تحديث المقاهي، فهي أمر بديهي ومطلوب، لكن المشكلة في طريقة التعامل مع التحديث، فالتقنية التي يجب علينا استثمارها للتقارب جعلنا منها جداراً للعزل، شوقنا لتلك الأيام هو في الواقع اشتياق لنسخة سابقة منا، نعرف في داخلنا أنها النسخة الأفضل، فنحن لسنا بحاجة إلى 4500 صديق على فيس بوك بقدر حاجتنا لصديق واحد حقيقي، ربما يكون الحل بسيطاً جداً إذا أعدنا تعريف كلمة المقهى، ليكون مكاناً للتواصل والحكايات وتبادل الآراء، ومساحة للبطء، لا مكاناً لمشاهدة مباريات كرة القدم وتناول الطعام السريع.

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق