لعلّ الدرجـة الأعلى في كلّ عـدوانٍ هي الحـرب. وأخصُّ سماتها أنّها تـتمظهر في صورة عـدوانٍ منظَّـمٍ تُـجَـنَّد فيه المواردُ البشريّـة والقـتاليّة والاقـتصاديّة، على مثـال ما هي تُـجَنَّـد في أيّ مشروعٍ مجتمعيّ ضخم. قد يكون العدوان فـعلًا فرديّـًا، أو فعْـلَ جماعةٍ صغرى في مواجهة أخرى، وقد لا يأخذ القيامُ به وإيـقاعُ الإذايـةِ بالمستهدَف منه أكـثرَ من زمنٍ قصير يُـعَـدّ بالدّقـائق أو السّاعات؛ أمّا الحرب فعدوانٌ أوسعُ نطاقًا ومدًى وأعرضُ من حيث قاعدةُ المشاركين فيه.
إنّه فـعْـلٌ جماعيّ، والجماعةُ فيه تـتـدرّج، صعودًا، من الجماعة القرابيّة الصّغرى (العائلة، العشيرة، القبيلة، القرية، المدينة...) إلى الجماعة التّضامنيّـة الكبرى (المجتمع، الشّعب، الأمّة، الدّولة متعدّدة القوميّات، تحالف إقـليميّ أو دوليّ...). وكلّما اتّسعت جغرافيا الحرب البشريّـةُ اتّسع، بالتّبِعة، نطاقُ عمليّـة التّنظيم التي يتوقّـف عليها قِـوامها، وتَزَايَـد مداها الزّمنيّ واستطال. وما أغنانا، في المعرض هذا، عن بيان ما بين العدوان المحدود والجزئيّ والعدوان الشّامل (= الحرب) من بـوْنٍ مَـهُـول على صعيد الكُـلْفات البشريّـة والماديّـة التي يدفعها المنخرطون فيه في حالتـيْـه.
على أنّ منطق العدوان واحدٌ في الحالتـيْـن وإن اختـلفت شروطُه في كـلٍّ منهما: إنّـه إخضاعُ العـدوّ أو الخصم لإرادة مَن سعى إلى إطلاق فعل العدوان، أو حمْـلُه على التّراجُع عن أهـدافٍ معاديـة؛ والإخضاعُ هذا يكون من وجـهيْـن: إمّا في صورةِ إلحاقٍ للهزيمة بذلك العـدوّ، وإمّا في صورةِ إفشالٍ كامل لأهدافه الحربيّـة ودفْـعِه، بالتّالي، إلى إنهاء حربـه. ليس من عـدوانٍ ينشأ لمجـرّد الرّغبة في ممارسة العدوان، أو لإشباع غريزة العدوان فـقط، وإنّما يتّصل كـلّ فعْـلِ عـدوانٍ بهدفٍ مرتَجَى يؤسّسـه ويَـحْمل عليه؛ فهـو وليد حاجـةٍ مّا يرادُ إشباعُها ولا يكون من سبيلٍ إلى ذلك الإشباع إلاّ من طريق العدوان. هـذه حقيقةٌ ميسورةُ الإدراك والمعاينة في عالم الغاب، مـثـلًا، حيث عدوانُ الضّـواري على غيرها من الحيوانات الطّـريدة مشدودٌ إلى حاجة البقاء وما يقـتضيه هذا من غِـذاءٍ يستوجب الحصولُ عليه قـتْـلُ الطّرائد. لكنّها حقيقةٌ تـتبيّـن أكـثـر في حالة الاجتماع الإنسانيّ وما يَـعْـرِض له من حروب؛ حيث النّزاعات العسكريّـة تدور على المصالح بين الدّول أو بين المجتمعات والأمـم.
الحرب، بهذا المعنى، تـنـتقـل بالعدوان من محـضِ الفعل إلى النّشاط المؤسَّسيّ. إنّها، هي نفـسُها، مؤسّـسة أو قُـلْ هي فاعليّـةٌ خضعت لعمليّـة مَـأْسسةٍ باتت معها عمليّـةً منظّـمـةً ذاتَ كيـانٍ خاضع للقوانين ولعلاقات التّراتب وما يـقـترن بذلك من نظامٍ من القواعد القائمة على مبدإ المحاسبة والمتابعة وتقويم العمل وما في ركابها من مبادئَ يقـتـضيها التّـنظيمُ المؤسّسيّ ويتوقّـف وجودًا عليها. لم تكن حروب الماضي القديم حروبًا نظاميّـة؛ لأنّ الحرب، حينها، لم تكن مـمأسَسة ولا تخوضها جيوشٌ محترفةٌ متفرّغـة ومتـكوّنة على أصول الحرب وعلومها.
كان المحاربون من القبائل والجماعات الأهليّـة، على الأغلب، من المتطوّعين القادرين على حمْل السّلاح وعلى القـتال، وكانوا يزاولون أعمالهم في الزّراعة والرّعي والتّجارة، في الوقت عيـنِـه، من غير أن يعرفوا شيئًا اسمه التّـفرّغ للقـتال أو المَعيش منه. ولعلّ أكثـر تاريخ الحروب بين الجماعات الإنسانـيّة كان على هـذا النّحو. غير أنّ مقـتضيات إقامة الدّول وحِـفْظ وجودها وأمنها ومدافَـعةِ المجتمعات في وجه أخطار الأعداء الخارجيّـين فرضت، مع الزّمن، الاتّجاه نحو تنظيم مجال الدّفاع الذّاتيّ ومأسسته، وإيكال أمْـر القيامِ عليه إلى قـوّةٍ من المجتمع تُـفْـرَز لهذه الغاية وتحتلّ مكانةً معتـبَـرة في الدّولة.
ولـقـد تأتّى ذلك من طريق إحداث مؤسّسة الجيش (ديوان الجنـد في تاريخنا الإسلاميّ مثـلًا)، وتوفيـر مراكزَ ومستـقَـرّاتٍ لها (= الأمصار في القاموس العربيّ: مثـل الكوفة والبصرة)، وتأمين الموارد الماليّـة الضّـروريّة للإنفاق على تأهيلها الماديّ وعلى مخصّصات المحاربين الذين باتوا، منذ ذلك الحين متفـرّغين للقـتال يعتاشون من ماليّـة الجيش.
لم نسُـق هذا الذي سقـناهُ من باب التّـأريخ للحرب ولمؤسّسة الجيش - وليس هذا ممّا يعنينا أو نستطيعُـه - وإنّما اصطحـبناه لبيانِ كيف أوجدتِ الحاجةُ والمصلحة إمكانًا جديدًا لترجمة نزعة العدوان العميقة في الكائن الإنسانيّ الحيوانيّ، إلى فعْـلٍ جماعـيّ منظّـم يتدرَّج في التّرتيب والتّنظيـم إلى حـدّ التّمأسُس النّاجز. إنّ هذه المَآليّـة التي ينتهي إليها العدوانُ من حيث هـو فعْـلٌ جماعيّ أوّلًا، ومنظَّـمٌ ممأسَـس ثانيـًا، تُـظـهِـرنا على أمـريْـن مترابطيْـن نسوقهما في لغـةٍ إلى الإشارة أقـرب:
أوّلهما أنّ قـدرًا ممّا يمكن تسميّـته بـ «تأميم العـدوان» قد حصل نتيجة الانتـقال به من الحيّـز الفرديّ إلى الحيّـز الجماعيّ (المجتمعيّ، الدّولتيّ)؛ حيث باتتِ الجماعةُ السّياسيّة هي الجهة التي تقوم عليه وتـتعهّـد أمرَه بالرّعاية الماديّـة والمعنويّـة.
ليس معنى ذلك أنّ العدوان استحال إمكانُـه من باب الأفراد (إذْ هـو استمرّ في التّاريخ وسيستمرّ)، بل بات مطلوبًا حتّى من الجماعة السّياسيّـة نفسها. إنّ تأميمَـها إيّـاه ليس احتـكارًا له ولا مصادَرةً أو انتزاعًا له من أفراد كانوا يأتونَه من تلقاء نفـوسهم، وإنّـما هو أشبهُ ما يكون بإحداث مؤسّسة عامّة (وطنيّـة) للعدوان تـتواجد، جنبًا إلى جنب، مع نظامٍ رديف للعدوان الخاصّ (الفرديّ) الجاري بين النّاس. وغـنيّ عن البيان أنّ الطّلب العامّ على الحرب، وإغـداقَ الإنفاق على قطاعها أكـثر من غيره، لَـهُـوَ بالغُ الدّلالة على كبير فوائدها عنـد الجماعات الإنسانيّة على صعيد تحقيق الدّفاع الذّاتيّ وتنميـة المصالح.
وثانيهما أنّ صيرورة العدوان إلى حربٍ والحربَ إلى مؤسَّسـة تـدلُّنا على أنّ لغريزة البقاء أثـرًا كبيرًا على السّلوك الإنسانيّ في تمظهـراته الصّغرى (الفـرد والجماعة الأهـليّة) والكبرى (الدّولة والجماعة الوطنيّة)؛ ذلك أنّ أوّل مقـتضيات الدّفاع الذّاتيّ هو ذاك الذي يُمليـه مبدأ/ قانون حِـفظ النّـوع الإنسانيّ؛ وهـو الدّفاع الذي تُسْـتَـرْخَـص في سبيل تحقيقـه المواردُ المتاحةُ جميعُها. وهذا يعني، ابتداءً، أنّ البشريّـة لن تشهد- يومًا- نهايةً للحروب إلاّ إذا هي شهدت نهايةً لغرائزها وللمصالح؛ وهذه تستحيل، بالقطع، وإن كان في الوُسع السّيطرةُ عليها.
0 تعليق