مضيت أتحسس قلبي كل حين، فيما كنت أقرأ الرسائل المتبادلة بين الفنان الهولندي فينسينت فان غوخ وأخيه ثيو، في واحدة من قاعات متحفه في مدينة أمستردام.
لم تكن العلاقة الغائرة في العمق بين فينسينت وشقيقه ثيو محض علاقة عائلية فحسب، بل كانت محورا دارت في فلكه حياة كل منهما. اضافة اعلان
كان فينسينت يترنح من الاكتئاب في مراحل كثيرة من حياته، كما لم يكن مستساغا اجتماعيا بقدر كبير؛ بسبب تصرفاته الغريبة في أحيان. كان شقيقه الأصغر ثيو الوحيد الذي آمن ليس بقدراته الفنية فحسب، بل بأهليّته في الانخراط في الحياة.
لم يقتصر دعم ثيو آنذاك على الشق المعنوي، وإعادة ترميم ثقة شقيقه المتهافتة بذاته، بل امتدت لمراسلات منتظمة لم تترك فينسينت فريسة لأفكاره المتضخمة بسبب الوحدة خلال السفر لفترات إلى فرنسا. وقد طبّق ثيو في ذلك الحين ما يشبه مبدأ منحة التفرغ الإبداعي التي تُمنح حاليا لفنانين ومثقفين، فكان أن التزم بإرسال مصروف شقيقه فينسينت وتكاليف معيشته؛ ليتفرغ للوحاته بعيدا عن الانشغال بتحصيل الرزق.
لم يكن ثيو الداعم المعنوي والمادي فحسب، بل كان ملهِما كذلك. لقد رسمَ فينسينت فان غوخ واحدة من أبهى لوحاته وأكثرها عذوبة، حين جعل زهر اللوز بهيّاً بلونه الأبيض المتورد، على خلفية تركوازية. كانت هذه هديته لشقيقه ثيو حين رُزِقَ بطفل، أسماه على اسمه. كان يرى في ميلاد طفل شقيقه رمزا لبدء الربيع. اقتنيتُ علّاقة مفاتيح أحملها كالتعويذة حيثما حللت، تظهر عليها هذه اللوحة. كنت قد ابتعتها من معرض تذكارات في الطابق السفلي من متحفه. لم تلمس لوحة ما خاصرة قلبي الضعيفة مثلما فعلت هذه اللوحة.
حكايتي مع فان غوخ ذات شجون منذ الصغر؛ إذ كنت ما أزال يافعة أعاني من تحسس في العينين، حين أهداني والدي بعد عودته من رحلة هولندا نظارة شمسية. يومها، قال لي إن هذه النظارة ممهورة باسم فنان كبير، لم أفلح في نطقه يومها: فان غوخ.
أوزّع في غرفة جلوسي في عمّان، متعلقات من معرض فان غوخ، أقربها لروحي صورته التي رسمها لنفسه بلحية برتقالية وعينين زائغتين، معتمرا قبعته الأنيقة، إلى جانب لوحة زهر اللوز.
حكاية الشقيقين انتهت على نحو مفرط في دراميته، حين رحل ثيو حزنا على انتحار فينسينت، بعد ستة أشهر فقط، عانى خلالها من عدم استيعاب عقله خسارة شقيقه: المبدع، المضطرب، الوحيد.
لئن كان فينسينت فان غوخ فنانا لا يُشق له غبار، حتى بعد رحيله بعقود طوال، فإنه كان محظيا كذلك بشقيق استثنائي اسمه ثيو، لا يقل عظمة عنه؛ إذ آمن به، واحتضنه وألهمه، وأسنده بكتفه كلما مالت قامته. ثيو الذي لم يرحل عن دنياه قبل أن يطمئن بأن شقيقه فينسينت يرقد آمنا مطمئنا في عالمه الآخر، بعدما كتب عبارته الأخيرة قبل انتحاره «لن ينتهي البؤس، وداعا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع».
لم تكن العلاقة الغائرة في العمق بين فينسينت وشقيقه ثيو محض علاقة عائلية فحسب، بل كانت محورا دارت في فلكه حياة كل منهما. اضافة اعلان
كان فينسينت يترنح من الاكتئاب في مراحل كثيرة من حياته، كما لم يكن مستساغا اجتماعيا بقدر كبير؛ بسبب تصرفاته الغريبة في أحيان. كان شقيقه الأصغر ثيو الوحيد الذي آمن ليس بقدراته الفنية فحسب، بل بأهليّته في الانخراط في الحياة.
لم يقتصر دعم ثيو آنذاك على الشق المعنوي، وإعادة ترميم ثقة شقيقه المتهافتة بذاته، بل امتدت لمراسلات منتظمة لم تترك فينسينت فريسة لأفكاره المتضخمة بسبب الوحدة خلال السفر لفترات إلى فرنسا. وقد طبّق ثيو في ذلك الحين ما يشبه مبدأ منحة التفرغ الإبداعي التي تُمنح حاليا لفنانين ومثقفين، فكان أن التزم بإرسال مصروف شقيقه فينسينت وتكاليف معيشته؛ ليتفرغ للوحاته بعيدا عن الانشغال بتحصيل الرزق.
لم يكن ثيو الداعم المعنوي والمادي فحسب، بل كان ملهِما كذلك. لقد رسمَ فينسينت فان غوخ واحدة من أبهى لوحاته وأكثرها عذوبة، حين جعل زهر اللوز بهيّاً بلونه الأبيض المتورد، على خلفية تركوازية. كانت هذه هديته لشقيقه ثيو حين رُزِقَ بطفل، أسماه على اسمه. كان يرى في ميلاد طفل شقيقه رمزا لبدء الربيع. اقتنيتُ علّاقة مفاتيح أحملها كالتعويذة حيثما حللت، تظهر عليها هذه اللوحة. كنت قد ابتعتها من معرض تذكارات في الطابق السفلي من متحفه. لم تلمس لوحة ما خاصرة قلبي الضعيفة مثلما فعلت هذه اللوحة.
حكايتي مع فان غوخ ذات شجون منذ الصغر؛ إذ كنت ما أزال يافعة أعاني من تحسس في العينين، حين أهداني والدي بعد عودته من رحلة هولندا نظارة شمسية. يومها، قال لي إن هذه النظارة ممهورة باسم فنان كبير، لم أفلح في نطقه يومها: فان غوخ.
أوزّع في غرفة جلوسي في عمّان، متعلقات من معرض فان غوخ، أقربها لروحي صورته التي رسمها لنفسه بلحية برتقالية وعينين زائغتين، معتمرا قبعته الأنيقة، إلى جانب لوحة زهر اللوز.
حكاية الشقيقين انتهت على نحو مفرط في دراميته، حين رحل ثيو حزنا على انتحار فينسينت، بعد ستة أشهر فقط، عانى خلالها من عدم استيعاب عقله خسارة شقيقه: المبدع، المضطرب، الوحيد.
لئن كان فينسينت فان غوخ فنانا لا يُشق له غبار، حتى بعد رحيله بعقود طوال، فإنه كان محظيا كذلك بشقيق استثنائي اسمه ثيو، لا يقل عظمة عنه؛ إذ آمن به، واحتضنه وألهمه، وأسنده بكتفه كلما مالت قامته. ثيو الذي لم يرحل عن دنياه قبل أن يطمئن بأن شقيقه فينسينت يرقد آمنا مطمئنا في عالمه الآخر، بعدما كتب عبارته الأخيرة قبل انتحاره «لن ينتهي البؤس، وداعا يا ثيو، سأغادر نحو الربيع».
0 تعليق