(1)
«... وإن أنا ضحكتُ من أي شيء فـي الحياة، فعسى ألاّ أبكي». الشاعر بايرون.
قليلة هي الأعمال الفنية فـي فئة الكوميديا التي تستدعي الانتباه والمشاهدة، وتطرح قسطا من أفكار فلسفـية كبرى، دون الاقتصار على التهريج والإسفاف، فما بالنا إذا كان المقال يخصّ الكوميديا السوداء!
شاهدت مؤخرًا مسلسلا جميلا هو Dead to me يتكون من موسمين؛ وفـي كل موسم عشر حلقات، ومدة كل حلقة ثلاثون دقيقة. الموسم الأول عُرض فـي عام 2019م والموسم الثاني فـي عام 2020م. العمل من بطولة الممثلة الأمريكية كريستينا أبلغيت ورفـيقتها ليندا إدنا كاردليني. تدور قصة المسلسل حول امرأتين الأولى هي (كريستينا) تؤدي فـي العمل شخصية (جين هاردينج)، وتعاني نتائج طفولة مرهقة، ومن حياة زوجية تعيسة كأم لولدين هما (تشارلي الابن الأكبر، وهنري الابن الأصغر)، بعدما تعرّض زوجها إلى الوفاة فـي الطريق؛ بسبب حادث دهس كانت سببه المرأة الثانية (ليندا) التي أدت بأسلوب مركب فـي التمثيل دور شخصيّة (جودي هيل). وهذه الأخرى لم يكن ماضيها سهلا ومريحا، إذ فقدت حملها لمرات متتالية، وعاشت متشردة تنام فـي أماكن كثيرة ليس من بينها بيت تملكه، بالإضافة إلى ذلك تعمل فـي دار لخدمة كبار السن، كما دخلت أمها إلى السجن، ولن تغادره إلا إذا أحسنت السير والسلوك. بسبب حادث الدهس تلتقي الفتاتان فـي مركز للعلاج والشفاء، فتتعرفان على بعضهما، وتتطور علاقتهما، حيث تجمعهما مفارقات متعددة غارقة فـي التراجيديا المُضحكة، أجادت فـي تأليفها وبنائها الدرامي المؤلفة والممثلة والمنتجة الأمريكية (ليز فـيلدمان) التي ركزت فـي سيناريو العمل على مناقشة علاقات الحب والزواج والنساء والخيانات الزوجية، والعمل الاجتماعي، واقتصاديات بيع العقار، دون إغفال الترويج لقضايا المثليّة بين الجنسين.
يستند بناء الشخصيتين فـي مسلسل (ميت بالنسبة لي) إلى الإيغال فـي النفس البشرية وعوالمها الداخلية المفككة غير القادرة على قبول التسامح على نحو من الأنحاء. وسلوك (جين) وتضارب أفكارها نحو الإخلاص للبحث عن الذي دهس زوجها، نراه يتضارب فور معرفتها بخيانته لها وشكواه المتعددة من عصبيتها وتعاملها مع أبنائها؛ تارة يشكو لأمه وتارة أخرى يلتقط ابنه الأكبر بعض مواقف الصراخ والشجار بينهما. أما مشاعر التناقض، فتظهر بعد تصاعد الأحداث، واكتشافها أن (جودي) التي أدخلتها إلى بيتها، واستضافتها فـي ملحق بالبيت لزوجها، هي المرأة التي دهسته وتسببت فـي موته وهربت، فـيتحول الحب والاحتضان إلى رفض وغضب حادين ونكران، لدرجة أن دَفَعتها فوق كتفـيها فـي مَشهد صعب جدا، شعرتُ فـي أثناء مشاهدته بكل ما كان يعتمل فـي داخل (جين) من ألم وتشوهات نفسية مرعبة. إن تشوهها النفسي لم يكن وليد انفعال صارخ أو انفجار غير متوقع فـي وجه (جودي)، لكنه ترسبات عميقة فـي ماضي طفولتها، وفـي علاقتها الموتورة مع أمها التي اهتمت (جين) برعايتها ومرافقتها فـي رحلة علاجها من السرطان، ما أدى إلى لجوء (جين) إلى استئصال الثديين بعد إصابتها هي الأخرى به.
تبدأ الأحداث فـي المسلسل بحديث يطرحه القس (وأين) فـي مجموعة يساعدها على التشافـي بحديث عن موضوع الحداد والتسامح، ومشاعر مختلطة من الحزن والغضب والسخط يعيش معها المرء ولا تغادره! يقول القس: «قد تكون المسامحة صعبة للغاية، وقد تستغرق وقتا طويلا، ربما عمرا بطوله. لكن مهما كانت الظروف، يستحق الجميع المسامحة». تطرح (جين) سؤالها الذي ستتضمن محاولات إجابته فـي مواقف متباينة حلقات المسلسل بأكمله، وكان سؤالها: «كيف يسامح المرء شخصا صدم زوجه بسيارته، ثم يقود مبتعدًا تاركا الزوج نازفا على قارعة الطريق؟ كيف أغفر ذلك؟».
توصف شخصية (جودي) فـي المسلسل بأنها «امرأة غريبة الأطوار، ولا تدخل فـي حياة أحد إلا ويتعرّض إلى الأذى». تنطلق شخصيتها من شعور بالذنب عظيمًا، فالحياة بالنسبة إليها ليست جديّة تماما إلا فـي أمرين هما: خساراتها المتكررة للحمل، وإصابتها بالسرطان من الدرجة الرابعة. نراها تُقحم نفسها فـي حياة (جين) مع أولادها لتقف إلى جانبها بهدف الاعتراف لها بالحقيقة التي تخفـيها عليها. تتخذ (جودي) من الكوميديا السوداء مدخلا لحياتها، فقدرتها على تحويل الحوارات إلى تهكم ومزاح أو سماجة وادعاء، خفف رشقات الذنب الذي ارتكبته، وإن ظل يحاصرها حتى وأتتها الفرصة السانحة لتعترف بفعلتها، فتوزع الوصفة الطبية بين القاتلتين عندما تساوتا فـي القتل. من العبارات الواصفة لهذا الانتقال، ما كتبه (إريك بنتلي فـي كتابه الحياة فـي الدراما، ترجمة جبرا إبراهيم، طبعة المكتبة العصرية، بيروت، 1968م) للتفريق بين فعل الهزل فـي التمثيل، وفعل الكوميديا فـي الدراما قائلا: «والتهجم مشترك بين المهزلة والكوميديا، ولكن بينما هو فـي المهزلة مجرد رد انتقامي، فإنه فـي الكوميديا القوة مدعومة بإيمانها الحق. فغضب المهزلة نجده فـي الكوميديا مدعوما بالضمير-ص 300».
(2)
موقع التسامح فـي الكوميديا السوداء.
الكوميديا المُرة صعبة فـي الكتابة، صعوبتها أن مواقفها الدرامية يجب أن يأخذها المُشاهد على محمل الجّد لا الهزل ولا الاستهتار، لهذا تفشل الكثير من المسلسلات العربية المقلّدة أو المأخوذة عن أعمال أجنبية. الكوميديا فن احترام طرافة الألم، وهو فن يدعو إلى تأمل فـي الحياة، والأفكار والمثل والمبادئ، ولا ينجح فعل تأملها واحترامها إلا بالعبور مع أسئلة الفلسفة، وتقليب وجهات النظر. الناظر إلى مفردتي «الحداد والتسامح» يفترضهما لصيقتين بالمأساة، هذا يُشبه الصراع حول مقولتي «اليمين واليسار» السياسيتين التقليديتين. وهذا افتراض صحيح. يذهب (إيف شارل زاركا Lves Charles zarka) إلى استطاعة التسامح الكشف عن «قوة الحداثة وضعفها». فـي مقالة له بهذا العنوان ترجمتها الباحثة (نورا أمين)، نُشرت فـي مجلة إبداع، العدد ثمانية عام 1994م، يرى أن التسامح مفردة احتلت مكانها الواضح فـي أطروحات الفلسفة المعاصرة. وينحصر طرحه فـي المقالة على التسامح نحو الأقليات والاعتراف بالآخر واحترام القانون المدني والديمقراطية والتعددية الفكرية، فمن «قوة الحداثة قدرتها على الاعتراف بالتسامح باعترافها بهزيمة اللاتسامح. ومن ضعف الحداثة عدم قدرتها على تحقيق انتصار نهائي للتسامح، إلا أنها تسعى دائما نحو هذا الانتصار فـي مواجهة انبثاق اللاتسامح وصوره المتغيرة- ص 32».
تسترشد كل من (جين وجودي) بالضمير الداخلي الحر لكليهما معًا؛ إذ لا تستطيع إحداهما البقاء لا مبالية إزاء الألم الذي فـي مواقف الصراع الدرامي يضحكنا. تبين ذلك فـي قدرتهما على التسامح بعد وقوعهما فـي الشعور المضاعف بالذنب (الكذب، والقتل للدفاع عن النفس، وسرقة الأموال، وحرق السيارة، والتهرّب من مصحة العلاج)، هنا يتضح لنا معنى قصد باتريس بافـي فـي (معجم المسرح) معرّفا الكوميديا السوداء Black Comedy بألفاظ نوع من المأساوي- هزلي، وليس فـي المسرحية من الهزل سوى الاسم فقط، وأن رؤيتها تشاؤمية وخائبة، حتى من دون وسيلة للحل المأساوي - ص 127». إن سؤال (جين) «كيف أغفر ذلك؟» يمتد إلى فكرة أكثر عمقا هي: ما الذي لا أقدر أن أسامحه ولا أتصالح معه؟ أختتم بسطر عميق لإريك بنتلي: «فـي الكوميديا العظيمة يتعرّض المرح للخطر من حين إلى حين»، وهذا يفـيد أن الكوميديا السوداء وحدها، التي تقدر أن تنتصر للفجائع والسخافات والسخرية.
0 تعليق