تبدو النقاشات فـي الأوساط العربية اليوم متشابهة. الجميع مشغولون بالديمقراطية وإمكانية إنفاذها حقًّا فـي سوريا، البلد المتعدد الطوائف والإثنيات. يجتر هذا فحص جديد/قديم لمسألة الديمقراطية، وهل هنالك نموذج ديمقراطي يناسبنا، هل هي منتج إمبريالي يهدف للسيطرة على الدول واستعمارها غير المباشر الأقل تكلفة بالنسبة للمستعِمر؟ كلها أسئلة مشروعة طبعًا، بعدما رأينا ما يمكن أن تجنيه البشرية مما يسمونه ديمقراطية فـي أمريكا وأوروبا.
آمن الكثير من العرب بمشاريع الديمقراطية المؤجلة فـي الكثير من السياقات وهم يستخدمون نماذج غير مدروسة، أو لم نعرف عنها سوى رواياتها الرسمية الصادرة عن هذه الأنظمة نفسها كنظام بورقيبة فـي تونس، أو حكم أتاتورك فـي تركيا، عندما تصبح المشاريع الوطنية الجامعة، وتحقيق المكاسب أهم من تمثيل الشعب ومشاركته فـي إدارة الشأن العام. يأتي هذا الحديث مجدداً فـي وقت ينبغي فـيه أن تعمل سوريا اليوم على ملفات ضخمة على الصعيد الداخلي والخارجي، وتركة كبيرة خلفها النظام البائد، لعل أولها ملفات اللاجئين وعودتهم للبلاد، ومنها تحقيق العدالة الاجتماعية، فـيصبح الحديث عن تقويض الديمقراطية أكثر شرعية بالنسبة للجماعات نفسها التي تؤمن بتأجيلها لأنها ترى فـيها شرًا مطلقًا. نشاهدُ نموذجًا على ذلك مع حكومة قيس بن سعيد فـي تونس واستحواذها على الحكم فـي ظل تسويغات حول ضرورة مكافحة الفساد فـي هذه المرحلة وتطهير تونس من الأطماع التي تمرر نفسها فـي مشاريع القوى والأحزاب المكونة لها مما يجعل تأجيل إنفاذ الدستور والديمقراطية مقبولاً.
يصبح الموقف المعادي للديمقراطية هو الأكثر معقولية، فكيف إذا ما كانت القوى المرشحة للحكم هي من جماعة لا تروقنا. مثل أن تكون جماعة إسلامية؟ يقول لنا التاريخ العربي المعاصر أن تحييد الجماهير الشعبية كان مشروعًا مستمرًا للسلطة، سواءً كانت هذه الجماهير يسارية، إسلامية، أو قومية. ومن هنا يمكن أن نستنتج أنه عندما يصبح الحديث عن استبعاد جماعة إسلامية لأنها أقرب للحكم من غيرها إنما يكون ذلك هدفًا استراتيجيًّا لا لقتل هذه الجماعة وأجندتها بل للقضاء على الديمقراطية وهو ما يتم الإلماح عليه مع وصول جماعات إسلامية معارضة للحكم فـي سوريا. فما الحل إذن؟ يجب أن نضمن أن يحدث أي نقد لأي جماعة حاكمة ونافذة تحت السقف الديمقراطي نفسه، وينبغي على هذه الجماعات أن تدرك مسألة فـي غاية الأهمية إن لم تكن الأهم وهي ضرورة صياغة تحالفات ديمقراطية مع أطياف وجماعات أخرى فـي المجتمع توسع من قاعدتها الشعبية.
ليس هذا ما لفت انتباهي فحسب، بل انعدام الخيال السياسي لدى النخب العربية، التي تخندقت منذ الثامن من ديسمبر إما فـي موقف حتمي من عدم القدرة على التغيير للأفضل فـي مستقبل سوريا بالنظر لما حدث فـي الدول العربية الأخرى منذ الربيع العربي 2011 أو التفكير المؤامراتي الذي ينزع عن السوريين دورهم فـيما يحدث هذه الأيام ويرجيها لقوى إمبريالية تُحقق مصالح لإسرائيل أو لأطراف أخرى ذات مشاريع خاصة بها فـي سوريا مثل النظام التركي. ونست كل هذه الأطراف موقع سوريا والسوريين فـي الصراع العربي الإسرائيلي، لتجعل هذا الأخير عنصرًا يتم استخدامه إما لتبرير الإجرام أو لعزل القضية الفلسطينية عما يحدث فـي سوريا.
فـي النهاية وكما أسلفت فـي بداية هذا المقال إن الحديث عن الديمقراطية والخوف منها على اعتبارها أداة تستخدمها القوى الإمبريالية لتوريطنا فـي كوارث داخلية وخارجية، لابد أن نُقر أن أي مشروع ديمقراطي فـي المنطقة يشكل تهديدًا بالنسبة لهذه القوى. صدر مؤخرًا كتاب لـنعوم تشومسكي (Noam Chomsky) بالشراكة مع ناثان ج. روبنسون (Nathan J. Robinson) بعنوان «أسطورة المثالية الأمريكية: كيف تُعرّض السياسة الخارجية الأمريكية العالم للخطر» (The Myth of American Idealism: How U.S. Foreign Policy Endangers the World). ينوه الكاتبان فـي المقدمة إلى أن كتابهما موجه للجمهور الأمريكي، إذ لا تخفى حقيقة الشر الأمريكية عن باقي العالم، ويسرد الكاتبان قائمة طويلة من أشكال التدخل الأمريكي الموجه ضد أي إصلاح حقيقي فـي أي بلد ينتمي إلى الجنوب العالمي. ويأتي تهديد النموذج الواعد لأي مشرع ديمقراطي عندما تُقرر أمريكا أن بلدا ما يُشكل تهديداً (حتى ولو لم يشكل خطرا على أمنها القومي أو الاقتصادي) عندما يكون مُلهما بشكل يتحدى سياساتها، ويحط من مصداقية ادعائها بأنها تسعى لتوطين الديمقراطية فـي العالم عبر تدخلاتها.
ومن الأمثلة على ذلك : غيانا والتي كانت تسمى غيانا البريطانية أثناء استعمارها فقامت الـ CIA بإقرار عملية سرية للتأثير على الانتخابات لمنع انتصار شيدي جاغان (Cheddi Jagan) وحزبه، المعروف بيساريته والمتشكك بالسياسات الأمريكية والبريطانية تجاه بلده. تكشف المستندات السرية التدخل فـي العملية الديمقراطية، والحيلولة دون استقلالها عن بريطانيا، بما فـي ذلك إثارة اضطرابات عنيفة مثل تحفـيز القتل، الحرق، القصف، وإثارة حالة عامة من الخوف. وكلها تصب فـي إضعاف شعبية الحكومة المنتخبة، والتشكيك فـي العملية الانتخابية، وزعزعة الاقتصاد لأمة فقيرة. حُولت غيانا إلى مكان خطر، وحشي. وكل هذا من أجل إذلال من يتحدى العقلية الإمبريالية.
الأمر ذاته حدث فـي الكونغو، هذا البلد الثري بالموارد الذي كانت له فرصة التنمية بعد استقلاله فـي 1960. وضعت الحكومات الغربية هدفا لها بأن تُزيل باتريك لومومبا، لأنه يُهدد الاستثمارات الأمريكية. ما يُهدد الغرب هو قيام أمة أفريقية لها المقومات السياسية والاقتصادية التي لبلدان الغرب. انتهى الأمر بمقتله فـي 1961. وأقتبس بهذا الصدد من الكتاب: “بعبارة أخرى، ما تسعى إليه أمريكا هو الاستقرار، وتعني بهذا «استقرار الطبقة العليا، والشركات الأجنبية». إن أمكن تحقق هذا عبر الأدوات الديمقراطية، فأهلاً به. وإلا، فإن «تهديد الاستقرار» المتأتي من وجود مثال جيد [يضع مصالح البلد قبل المصلحة الأجنبية] يجب تدميره، قبل أن يعدي الآخرين. هذا بالضبط ما يجعل أصغر الشرر يُأخذ على أنه تهديد عظيم».
الخلاصة أنه ينبغي التمسك بالديمقراطية، وأن هذا هو الدرس الأول من الثورة على أي نظام مستبد احتكر البلاد، وبدلاً من الاتهام التسطيحي واليائس بتحكم الغرب بخياراتنا الديمقراطية وحتمية تحقق رغباتهم بما يتوافق مع مصالحهم، ماذا لو فكرنا بأن تدخلهم هو إفساد للديمقراطية ومشروعها بدلاً من الإيمان بكونهم يقفون وراءها فلا قدرة لنا على الحد من تدخلهم، وأنه حان الوقت لنفكر فـي ديمقراطية خاصة بنا، ونموذج لا يحارب السوريون لأجله وحدهم بل نحارب لأجله جميعا. وأن ما تقدم حول التدخل الغربي لا يجعل العرب مستثنيين من الديمقراطية لأسباب تخصهم بل لأسباب ينبغي عليهم أن يتكاتفوا للثورة عليها.
0 تعليق