فـي مقالي السابق تناولت باختصار علاقة الفلسفة بجودة الحياة كتوجه جديد فـي الفلسفة الراهنة، وأنا أود هنا أن أتناول جانبًا معينًا من هذا العلاقة كما تتبدى من خلال الوعي الجمالي باعتباره أحد التجليات الرئيسة للفكر الفلسفـي. ذلك أن الفلسفة- كما أفهمها- هي تأسيس للوعي فـي سائر تجلياته: كالوعي العلمي، والديني، والأخلاقي، والتاريخي، والجمالي؛ أي تأسيس الوعي بالمفاهيم الكبرى التي توجه حياتنا وأسلوبنا فـي العيش. ولا شك فـي أن الوعي الجمالي يقوم بدور أساسي فـي تحقيق جودة الحياة؛ ببساطة لأنه يتعلق بإدراك القيم الفنية والجمالية، وهو إدراك يتمثل فـي أسمى درجات الوعي المرتبط بإشباع الجوانب الوجدانية والشعورية فـي الحياة الإنسانية التي تتجاوز إشباع الحاجات الفـيزيقية للإنسان، بل تتجاوز الحاجات المعرفـية أيضًا. ولذلك فإن الوعي الجمالي لا يزدهر إلا عندما تزدهر الحضارات، ويمكن إيضاح ذلك فـيما يلي:
لنتفق أولًا على أنه لا حضارة من دون فن وثقافة بالمعنى الواسع، وإذا كانت الحضارة مقترنة بجودة الحياة وقيمتها، فإن هذه الجودة تمتنع إذن فـي حال غياب الفن؛ ببساطة لأن الإبداع فـي الفن هو أمارة على بلوغ الحضارة ذروة تألقها بعد الوفاء بالحاجات الإنسانية الضرورية للحياة. ولنتفق ثانيًا على أن ارتقاء الفن مقترن بارتقاء الوعي الجمالي، وهذا الوعي يتسع ليشمل الثقافة بمفهومها الواسع واتجاهات النقد الفني والأدبي، وكل هذا يرجع فـي النهاية إلى الفلسفة باعتبارها الأصل والمنشأ الذي ينبع منه كل هذا. الحضارات تبدأ بالعلم، ثم بالتكنولوجيا التي هي تطبيقات لهذا العلم، ولكن الوعي الجمالي (والفلسفـي عمومًا) يأتي عندما تنضج الحضارات بحيث نعلو كثيرًا على مجرد الوفاء باحتياجات وجودنا الفـيزيقي أو الجسماني، بل على رفاهة الحياة التي يكفلها العلم والتكنولوجيا، لكي نحيا الحياة الجديرة بأن تُعاش على المستوى العقلي والروحي الذي وُهِب للإنسان باعتباره غايةً وكمالًا له.
غير أنه من الضروري أن نلاحظ أن الوعي الجمالي لا يقتصر موضوعه على إدراك القيم الفنية والجمالية فـي الفن، بل يتسع ليشمل إدراك جماليات الطبيعة وجماليات البيئة التي تشمل البيئات الطبيعية والبيئات المشيَّدة، بل يشمل أيضًا نظرتنا للحياة ورؤيتنا فـي التعامل مع الأشياء بطريقة جمالية. وعلى هذا، فإن تأسيس الوعي الجمالي بظواهر الفن والجمال، لا يعمل فحسب على تعميق رؤيتنا للفن وحُسن تلقيه من خلال عملية التذوق الجمالي؛ بل يعمل أيضًا على تحسين رؤيتنا للبيئة التي نعيش بين جنباتها. الواقع أن علم الجمال البيئي كان مستبعدًا من علوم البيئة؛ وذلك لعدة أسباب أو مبررات خاطئة، ومنها القول بأن البيئة لا تنطوي على موضوع إستطيقي؛ لأن الموضوع البيئي كان مقتصرًا على الدراسات التي تتناول البيئة من خلال فروع العلوم الطبيعي، مثل: الجغرافـيا الطبيعية وعلم المناخ والإيكولوجيا.
ومن الأخطاء التي وقرت فـي الأذهان الاقتصار فـي النظر إلى موضوع البيئة من حيث صلتها بالأخلاق، وبالأسلوب الأمثَل فـي الحفاظ عليها من أجل صحة ورفاهة الإنسان. وهكذا يتم اختزال الموقف الفلسفـي من البيئة إلى «علم أخلاق البيئة» Environmental Ethics، والنظر إلى الخبرة بالبيئة باعتبارها خبرة أخلاقية تتعلق بأسلوب التعامل مع البيئة والحفاظ عليها، وما إلى ذلك. ولكن هذا الخطأ الفكري هو ما أدى إلى تأخير النظر إلى الموضوع البيئي باعتباره موضوعًا جماليًّا؛ ومن ثم يمكن النظر إلى الخبرة المرتبطة به من حيث هي خبرة جمالية وإن كانت مختلفة عن الخبرة بالعمل الفني، وهذا هو مادة البحث الأساسية فـي «علم جمال البيئة» Environmental Aesthetics. والحفاظ على البيئة لا يعني فحسب عدم الجور عليها بتقليص مساحتها بفعل المجتمع الصناعي المتمدين الذي يُقلِّص باستمرار من وجودها وحضورها فـي عالمنا؛ وإنما يعني أيضًا عدم تشويه ما تبقى منها، من خلال التغيير الجائر لطبيعتها الفطرية بزرع كتل أسمنتية وسطها أو أبراج شاهقة تُشرِف على مشهدها وكأنها تقوم بتسييجه، فتفسد المشهد وتعزلنا عنه. وجمال البيئات المشيدة يشمل كل الأمكنة التي نتعامل معها بشكل مباشر فـي حياتنا اليومية، من قبيل: بيئة الحياة اليومية والاعتيادية كما تتمثل فـي العمل والمنزل وفـي كل الأماكن التي يتحرك فـيها الإنسان ذهابًا وإيابًا فـي الطريق إلى عمله أو قضاء حوائجه. وهنا على وجه التحديد تبرز أهمية فن المعمار وهندسة التخطيط العمراني؛ إذ بات لزامًا على هذا الفن أن يضع فـي اعتباره- فـي المقام الأول- كيف يكون المعمار متصلًا بعالم الطبيعة؛ ومن ثم بانفتاح الداخل على الخارج. بل بات لزامًا على فن الديكور والتصميم الداخلي للمنازل فـي العوالم المتقدمة أن تراعي ألا يكون المنزل محبسًا أو سجنًا يقبع المرء بين جدرانه.
ومن ضرورات الوعي الجمالي بالفن استبعاد المقولة التي شاعت فـي عصر الحداثة التي تقول: «الفن من أجل الفن»؛ فالحقيقة أن الفن ينبغي أن يكون دائمًا من أجل الحياة، وهكذا كان شأن الفن العظيم فـي عصر القدماء حينما ارتبط بعالمهم الديني والأسطوري والاجتماعي، وهكذا كان شأن كل الأعمال الفنية العظمية على مر العصور.
خلاصة القول إن الإحساس بقيمة الجمال ومواطنه أمر مرهون بالوعي الجمالي، وهذا الوعي مرهون بالثقافة الفنية والجمالية، أي بفلسفة الجماليات؛ وهذا ما يتحقق عندما تبلغ الحضارات ذروة تألقها، وهو ما يكفل جودة جانبًا مهمًا من جودة الحياة وأسلوب العيش.
0 تعليق