"مزاريات".. النوايسة ينسج حوارا بين المكان والزمان والإنسان

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عمان– ينسج الباحث زكريا النوايسة حوارية بين المكان والزمان والإنسان في كتابه "مزاريات" الذي يغوص به في تفاصيل مدينته المزار، يلامس ماضيها وحاضرها، متأملا حكاياتها التي تضخ نبض الحياة في روحها.اضافة اعلان
تحت عنوان "مزاريات: لوحات أدبية عن الإنسان والمكان" صدر كتاب الباحث النوايسة، عن وزارة الثقافة ضمن إطار المدن الثقافية الأردنية وسلسلة "فكر ومعرفة".
يقول النوايسة في مقدمته للكتاب، "إن علاقة الإنسان بالمكان تقوم على اندماج الذاكرة بالتراب. فنحن نقرأ المكان كوطن، لأننا جزء منه، ولا ننفصل عنه. وإن ابتعدنا قليلاً، يستبد بنا الشوق للعودة إليه، لنتصل به من جديد، ونعيد قراءة صفحته مرات ومرات. حيث يذهب البعض إلى أن وطن الإنسان هو حيث يضع قدمه، إلا أن هذا الرأي لا يتفق مع نزوع الواحد منا إلى مسقط رأسه أو المنزل الأول، كما يقول أبو تمام: "كم منزل في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل".
ويشير المؤلف إلى صورة الوطن والمنزل الأول في ذاكرة "ميسون البحدلية"، التي تزوجها "معاوية بن أبي سفيان"، حيث أسكنها في قصر منيف تحيط به أسباب العيش الرغيد. ولكن ذاكرة المكان والوطن غلبت عليها، فحنت إلى ذكرياتها، حيث الصحراء والبيوت البسيطة التي تخفق بها الرياح، وبساطة أهلها وطيب شمائلهم. وكانت تنشد قائلة: "لبيت تخفق الأرياح فيه /أحب إلي من قصر منيف/ وأصوات الرياح في كل فج/ أحب إلي من نقر الدفوف".
ويرى النوايسة أن المكان والوطن لهما ذاكرة جماعية، تشكلت من شعور محبي هذا المكان بالارتباط به. فذاكرة كل واحد منهم تكمل ذاكرة الآخر، لنصل في النهاية إلى صورة مكتملة، نستطيع من خلالها قراءة تاريخ هذا المكان على نحو صادق. وفي المزار، يرى المؤلف وهج البدايات، ويستشرف فيه النهايات. "ففيه كانت الخطوة الأولى، وعلى ثراه تعلمت أبجدية الحياة، وتحت سمائه حنكتني أمي بحب الناس والبحث عنهم، حتى عندما تأخذني الدروب بعيداً".
ويبين المؤلف أن المزاري ليس عجيباً من الناس في حبه لترابه، ولكن له خصوصية الجوار المبارك. فهو يعيش مؤتة ذكرى معركة مؤتة، كل يوم، وعند كل واد أو ربوة أو منعرج، يستشعر أطياف الصحابة. وللمزار ذاكرة كبيرة يعيشها المزاري دون فرز، ويبني من خلالها ذاكرته الخاصة. فكل حجر أو شجرة أو إنسان هو مفردة أساسية في كتاب هذه الذاكرة الممتدة إلينا من زمن الأسلاف.
ويقول النوايسة أنه في هذا الكتاب حاول أن يقترب من المزار القديمة، قبل أن تغيب تحت تبريرات الحداثة والتطور، ورغبت في أن أستفز ذاكرة القارئ ليفتح بوابات ذاكرته، لأنني أعتقد أن هناك الكثير مما يجب تدوينه.
من جانبها كتبت الدكتورة منتهى الطراونة تقديم للكتاب، حيث شكرت فيه المؤلف الذي جعلها جزءا من تفاصيل المزار، والتطواف في المكان والزمان والإنسان كما رسمها في لوحاته التي أضاءها مداد قلبه وذوب نفسه. وكيف لا وهو واحد من الذين تربطهم علاقة وثيقة بمكانهم، مؤمنًا أن العلاقة بين الإنسان والمكان هي علاقة تلازمة لا يمكن الفصل بينها. وقد أبدع المؤلف في نقل هذه العلاقة إلى إطار يحيط بكل مواقفه وذكرياته، ليكون جزءًا لا يتجزأ من كيانه، يصنع مشاعره وعواطفه.
وتضيف الطراونة، أن النوايسة غاص في تفاصيل مدينته، ولامس ماضيها وحاضرها، متأملًا حكاياتها التي تضخ نبض الحياة في روحها، فتصل إلى روحه، تنعشها وتسعدها. ولم يترك منها شيئًا إلا واستنطقه، وحاوره، وأدار الحوار بين الثلاثية: المكان، الزمان، والإنسان.
وتشير الطراونة إلى أن هذا الاستنطاق هو عبارة عن لوحات تحرك الوجدان وعمق المشاعر، ويعكس شخصية النوايسة المزارية المتدينة، الملتزمة سلوكيًا، والمنتمية لوطنها الكبير ولقيمها الإنسانية الأسمى. كيف لا وهو ينتمي إلى دائرة المزار التي تتسع دائمًا لتشمل القضايا العربية المصيرية، ودرتها فلسطين.
وترى الطراونة أن المؤلف يخرج من أعماق نفسه، ولا ينسى أن يتوقف عند نماذج إنسانية قريبة من روحه وقلبه وعقله؛ منها: البسيطة، والعفوية، والمتدينة، والسياسية. والثائرة، شخصيات حقيقية يعرفها وتعرفه، وثق لها بالصور، في فسيفساء جميلة، رصت حجارتها، والتصقت وتجذرت في الأرض الطهور.
وتقول الطراونة إن النوايسة رسم لوحاته بريشة فنان ماهر، وصور المشاهد بحرفية متميزة تأسرك اللغة، وتغريك عمق التأمل ودقة التعبير. إن نزف مشاعره يصل إلى دواخل نفسك من حيث لا تدري، فتواصل القراءة دون توقف، وكأنك تحكي حكايتك الخاصة. كما أن لوحاته مليئة بالقيم، ورسائل المزار التي يعبّر عنها النوايسة تظل وشمًا في ذاكرة ساكنيها والعابرين.
وتوضح الطراونة أنها من خلال هذا التقديم ستترك الحكم للقارئ وتذوقه، لأن لكل لوحة من لوحات إطار يناسب مضمونها؛ الخاص، وتحمل رسائلها الدينية المقدسة والإنسانية والاجتماعية، التي تجمع بين الأطر، وتتداخل في معظم اللوحات. تمنحها عمقا فلسفيا إن يحتاج إلى الكثير من التأمل واستخلاص الدروس، مع التأكيد على أهمية منهج خفي غير معلن، يعتمد على فطنة القارئ وذكائه.
وتبين الطراونة أن المؤلف لم يترك شاردة أو واردة في المجتمع المزاري إلا وناقشها وحاورها. بدأ من طفولته، حيث كان مخياله وهواجسه، وخوفه، وأمنياته، ومغامراته البريئة، صداقاته، وعلى مراجعة تفاصيل الحياة اليومية، مثل أحاديث جده عن ماضيه وحالاته وأسفاره. كما تناول أيضًا أصوات فيروز القادمة من لبنان، التي كانت تملأ الأجواء، وأمه الأكثر قربًا لروحه، وصندوقها، وإيحاء كلماتها، وهمهماتها، ودعواتها، وابتهالاتها، ورصدها الجوي، ونولها، ومتعلقاتها، وذكرياتها المتشبثة بروحه لا تغادر.
كما تشير الطراونة إلى أن النوايسة يضيف في هذه اللوحات حوارات مع الحجارة والحيطان والبيادر، وأضرحة الصحابة الكرام، والمشاريق والمغارب، وأيلول والمطر. خرج من المزار وحلق في جيكور مع حبيبه السياب ومطره، وأم الغيث، واستسقى السماء التي ما تلبث أن تمنح مطرها للأنقياء. ولم ينسَ أفراح المزار وأحزانها، ومنتديات سوقها، وتياراتها الفكرية، ودكاكينها، وخصوصية بعضها. ويتناول طقوس رمضان، والعيد، والحجاج، والكاظية، والمدارس، والمستنبت، وأدوات الناس البسيطة، والحيوانات الأليفة، والطيور. ويصف المزار، وثلجها، لهجة أهلها، ومصطلحاتهم، والكثير مما ستجدونه في هذا الكتاب.
وتضيف، تزاحمت في هذا الكتاب سرديته مع بعض أسماء المزاريين العالقة في ذهنه، من البسطاء والمباركين، والسياسيين والمناضلين، والمثقفين، والتربويين. وأود أن أترك لكم تقدير ذلك، فهذه هي المدينة المزارية، العميقة الجذور في التاريخ والموروث، المدينة التي تُكتب أحرفها بنور، وستظل علامة فارقة في هذا النوع من الكتابة التي تحمل بين طياتها التاريخ والإبداع، كما هي الحال مع الكاتب النوايسة.
من جهتها، كتبت مديرة ثقافة الكرك، عروبة الشمايلة، تحت عنوان "إضاءة حول الكتاب"، أن للإنسان ذاكرة تتشكل بفعل الأماكن التي مر بها. فمنها ما يجعلك لا تغادرها أبدًا، ومهما أخذتك المسافات بعيدًا. تعيدك إليها في كل مرة بفعل المحبة التي زرعتها في داخلك، وتروي لك تفاصيلك الحاضرة وتفاصيل أجدادك الغائبة. وتعيدك إليها لتنتشي من روحها العابقة في كل زاوية.
وتتعلم منها وتخلق لنفسك طرقًا جديدة ببركة وجودك فيها، وتشعرك في كل مرة أنك طفلها المدلل والوحيد. وتعرفك تمام المعرفة مهما ابتعدت عنها. ربما تنساها لمشاغلك الكثيرة، لكنها لا تنساك أبدًا، وتخبرك في كل مرة أنك كنت حاضراً هنا لتقول بملء فمك: "هذا المكان روحي".
فما أصدق ما قالته رضوى عاشور: "تكتسب الأماكن فجأة معنى جديدًا حين تتعرف على حكاياتها، ربما ليست الحكاية الكاملة، ولكن ومضة من الحكاية". لافتة إلى أن هذا الكتاب يحمل عبقًا بروح الإنسان والمكان، بلغة أدبية عالية تحمل الإغراء الكامل لقراءته دون توقف.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق