مقابلات الشارع وصناعة التفاهة!

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في زمن بات الحليم فيه حيراناً، وبات فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر، باتت التفاهة هي العنصر الرئيس على منصات التواصل الاجتماعي، فهي من تقود ذائقة العامة حيث شاءت، وتشكّل وعي الأجيال في قوالب هشة خاوية من المعنى، فنحن اليوم نعيش عصراً أطلق عليه المفكر الكندي "آلان دونو" في كتابه "نظام التفاهة"، زمن انتصار السطحيين، حيث يُقصى أصحاب الفكر العميق، ويُصنع من التافهين رموزاً جماهيرية تصدّرهم الخوارزميات كقدوة للأجيال الجديدة، فأقتبس من كلامه "إنّ التفاهة قد بسطت سلطانها على جميع أرجاء العالم، فالتافهون أمسكوا بمفاصل السلطة، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصل في كلّ ما يتعلّق بالخاص والعام."

انعكاسات هذا الواقع المؤسف تتجلّى بوضوح في ظواهر عديدة تطرّقنا لها سابقاً، ولكن على سبيل المثال سآخذ ظاهرة "مقابلات الشوارع"، التي انتشرت في الآونة الأخيرة كموضة يسعى من خلالها بعض الباحثين عن الشهرة لجذب المتابعين على منصات مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب، حيث يقوم هؤلاء بطرح أسئلة سخيفة لا قيمة لها، وأحياناً تكون خادشة للحياء أو خارجة عن قيمنا الإسلامية والاجتماعية، بحجة أنها "ترفيه"، بينما الهدف الحقيقي هو خلق محتوى سريع الانتشار يحقق المشاهدات والإعجابات، بغضّ النظر عن مدى تفاهته أو ضرره.

لكن الأمر لا يتوقف هنا ولم يعد يقتصر على الأفراد، فقد انتقلت هذه العدوى إلى المؤسسات والشركات، التي باتت تستخدم هذا النوع من المحتوى في التسويق لخدماتها ومنتجاتها، دون أي اعتبارات أخلاقية أو مجتمعية، وفي حين أن فكرة مقابلات الشوارع بدأت في الغرب ضمن منظومتهم الأخلاقية والاجتماعية، إلا أنها عندما استُنسخت لدينا، لم تراعِ اختلاف السياقات، فتحولت إلى أداة لنشر الرداءة وتسطيح العقول.

ربما يمكننا التغاضي عن تصرّفات بعض المراهقين الذين يفتقرون إلى التوجيه، لكن الأمر يصبح أكثر خطورة عندما يكون صانعو هذه التفاهة جهات إعلامية وشركات إنتاج، من المفترض أن تلتزم بالمعايير المهنية والأخلاقية، فهذه الجهات لا تكتفي فقط بنشر إجابات غير لائقة، بل تتعمّد إبرازها وتسويقها كجزء من "المشهد العام"، وكأنها تعكس الواقع الحقيقي للمجتمع، في محاولة خطيرة لتطبيع السلوكيات السلبية.

ووصل الأمر إلى أبعد من ذلك عندما تحوّلت بعض هذه الشركات إلى مصانع لإنتاج "نجوم التفاهة"، فمن خلال ظهورهم في مقاطع سطحية أو مستفزة، يحققون شهرة لحظية، تدفع الشركات الأخرى إلى استقطابهم للإعلانات والترويج، ليصبحوا مع الوقت رموزاً لمحتوى بلا قيمة، بدلاً من أن يكونوا قدوة للأجيال الشابة!

ويُجمع كل المتخصّصين في الإعلام والاتصال بأن هذا النوع من المحتوى لا يقتصر ضرره على نشر الرداءة، بل يؤثر أيضاً على الصحة النفسية للأطفال والمراهقين الذين يتابعونه باستمرار، فهو يخلق جيلاً لا يطمح إلى التعلم أو الإنجاز، بل يسعى وراء الشهرة الفارغة بأي وسيلة، باعتباره طريقاً سريعاً لجني المال والثراء، كما أن هذا التأثير يمتد بطبيعة الحال للبالغين الذين يصابون بالإحباط عندما يرون أنه وبالرغم من اجتهادهم إلا أن الحظ يبتسم "لصُنّاع التفاهة".

السؤال الذي يطرحه الجميع هو "لماذا يستمر هذا النوع من المحتوى في الانتشار؟" والسبب ببساطة هو أن الجمهور نفسه يساهم في ترويجه، حتى ولو من باب السخرية أو الاستهزاء، فكل مشاركة وتعليق ومشاهدة تزيد من شهرة هؤلاء الأشخاص، مما يُغري المزيد من الباحثين عن الأضواء بتقليدهم، علماً بأن الإحصائيات تُثبت بأن هذه الشهرة لا تدوم، والسبب يعود بأنه من يبني محتواه على التفاهة سرعان ما يذهب جفاء.

جميعنا بات اليوم متيقّناً من قوة الإعلام وصناعة المحتوى، فهما ليسا مجرّد أدوات للربح، بل لهما دور في تشكيل وعي المجتمعات، وإذا استمرت هذه الظاهرة دون ضوابط، فإننا سنواجه مستقبلاً يسيطر عليه المحتوى الهابط على حساب المحتوى الغني والمفيد، فمواجهة هذه الموجة من التفاهة تتطلب وعياً مجتمعياً وجهداً جماعياً، فليس كل ما يُعرض علينا يستحق المشاهدة، وليس كل مشهور يستحق المتابعة، ولعل إدراكنا لهذا الأمر يكون الخطوة الأولى نحو إنقاذ الأجيال من القدوات الفاشلة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق