يناير 18, 2025 6:26 م
كاتب المقال : علي سعادة
ينبلج الفجر من رحم العتمة.
وكان الفضاء ممتلئاً إلى حافته، فائضاً مشبعاً برائحة العنبر والزنبق، فيما يتزاحم الشهداء على بوابات وطن نسج من نور ودماء ودموع.
منذ أن وعى مأساة وطنه وشعبه كان رائد الكرمي الجميل الرائع إلى حد الإشعاع، المولود عام 1973 في طولكرم، شهيداً يسير بين الناس على قدمين، متواضعاً، بسيطاً، لم يكمل تعليمه الإعدادي، وخرج من المدرسة وهو لا يزال في المرحلة الابتدائية، ليبدأ مسيرة صعبة ومضنية كان لها الأثر في صياغة شخصيته الوطنية والأسطورية.
كان عمره حين توقدت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول عام 1987 نحو 14 عاماً، بدأ يصنع “المقليعة” و”الشعبة”، والمشاركة في العمل الميداني اليومي.. رمي جنود الاحتلال الصهيوني بالحجارة، وكان من مهامه أيضاً إشعال إطارات السيارات وإغلاق الطرق أمام دوريات العدو بالحجارة والحاويات، بقي هذا دوره حتى بلغ سن الثامنة عشرة، وفي هذه المرحلة المبكرة من حياته بدأت شخصيته الأسطورية تتشكل.
إذ أصيب برصاصات قاتلة في صدره ويديه، وحينها اعتبره الجميع في عداد الأموات، وبدأ الجميع يعد ويستعد لفتح بيت العزاء له، غير أن بقية من حياة ردت إلى جسده، وسارت الدماء في عروقه مجدداً، وقفزت روحه من غفوتها متوثبة لتمضي نحو ساحات المواجهة من جديد.
الحياة وهبته نبضها، وجيش الاحتلال أخذ منه الأمل، إذ لم يمهله طويلاً فقد سارع الجنود إلى اختطافه من المستشفى بينما جروحه لا تزال تنزف، وألمه يعتصر كل مسامات جسده النحيل الضعيف، حولوه إلى التحقيق في زنازين الاعتقال، واستمر في غرف التحقيق لمدة 21 يوماً، مورست ضده شتى أشكال التعذيب التي أبدعتها العقلية اليهودية استنسخت تجربة النازي في سياقها العام، تم شبحه “مدة كالمصلوب” من يديه، وبقي معلقاً بين الحياة والموت إلى أن حكم عليه بالسجن أربع سنوات ونصف.
أيام المعتقل والتعذيب الجسدي والنفسي صنعت شخصية رائد الكرمي وصقلتها حيث تعمد المحققون إذلاله وتدمير روحه، وكان مسؤول السجن يأمر الجنود بوضع الطعام لكل المعتقلين إلا له، كان الأمر أقرب إلى التحدي: تستطيع أن تدمر جسدي ولكنك غير قادر على هزيمتي وتدمير روحي وأحلامي، القسوة زادته صلابة وجعلته يرى المحتل بدون أقنعة، وبات مسكوناً بالهم الوطني، وبأنه لا راحة له ما دام الاحتلال جاثماً على صدر فلسطين وشعبها.
أمضى عامين في السجن، وفي تلك الفترة وقعت اتفاقية أوسلو التي تم بموجبها إخراج معتقلي حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” من المعتقلات وكان من بينهم رائد الذي واصل حياته الشخصية فتزوج من ابنة خاله، كان سكوناً وركوناً إلى الحياة الهادئة، ولكن كان متقطعاً، لا يدوم على حال، كما هو الأمر مع الأيام وتقلباتها.
المرحلة الأكثر أهمية في حياة رائد والتي أعادته بكل عنفوان وحمية إلى حضن المقاومة كانت في 28 أيلول عام 2000 حين دخل أرئيل شارون ساحات المسجد الأقصى ودنس طهارة المكان، عندها لم يطق رائد ما كان يراه، فقرر أن يواصل ما بدأه صغيراً، المقاومة، خاصة وهو يرى الأصدقاء والمقربين يسقطون الواحد تلو الآخر ذوداً عن حياض الأمة ومقدساتها، وتحديداً الشهيد الدكتور ثابت ثابت أمين سر حركة فتح في طولكرم ومعتز السروجي وطارق القطو.
وسائل المقاومة القديمة لم تعد تجدي مع عدوٍ متفوق عسكرياً ويحظى بأحدث الأسلحة، وأكثرها تعقيداً وتطوراً وبدعم عسكري واقتصادي وسياسي غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية، واتخذ رائد قرار حمل البندقية، ليبدأ مسيرة جديدة مع المقاومة، وتدخل “فتح” في مرحلة أخرى من الكفاح والتحرير الوطني، وبعد اغتيال ثابت شكل رائد الكرمي مجموعة “ثابت ثابت” التي قررت الانتقام لشهداء فلسطين.
بعد نحو عام قررت “فتح” المشاركة الميدانية في الانتفاضة المسلحة، حينها قام رائد بتشكيل خلايا صغيرة أطلق عليها اسم “كتائب شهداء الأقصى” التي كانت لعملياتها السريعة في الرد على عمليات الاغتيال أثر نفسي كبير في شحن الأرواح والهمم، وبدأت حكومة شارون باتخاذ استراتيجية استهدفت من خلالها حركة “فتح” وقادة “الكتائب” وفي مقدمتهم رائد الكرمي الذي أطلق عليه ألقاباً عدة منها “صاحب الرد السريع” و”صقر الكتائب”.
ونفذت المجموعة عمليات ضد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين في فلسطين، واعتمدت في عملياتها بصورة رئيسية على أسلوب إطلاق النار على هدفها في أثناء سياقة السيارة، وكانت مسؤولة عن الهجوم على مستوطنة “عمانويل” التي يقطنها يهود متشددون، والذي قتل فيه 8 منهم وأصيب 30 آخرون.
تعرض رائد لأربع عمليات اغتيال كانت أولاها إطلاق عدة صواريخ من طائرة “أباتشي” عليه قرب مخيم طولكرم في عام 2001، ومن ثم محاولة قتله من قبل قوة إسرائيلية خاصة، وفي المرة الثانية أدخلت رصاصة ملغومة في رشاش “ام 16” الذي كان يحمله وانفجرت دون أن تؤذيه، وكان آخرها عملية الاغتيال التي أوقفت نبض الحياة في قلبه، حين انفجرت عبوة ناسفة لدى مرور الكرمي بشارع فرعي في الحي الشرقي من طولكرم بعد لحظات من خروجه من منزله الذي استأجره حديثاً، وذلك يوم 14 كانون الثاني 2002 في طولكرم، وتم زرع العبوة بمحاذاة سور المقبرة المسيحية في المدينة، وتم تفجيرها عن بعد، وأحدث الانفجار حفرة في الأرض بعمق وعرض متر، وتدمير سور المقبرة وأصيب الكرمي في ساقيه بصورة خاصة وبشظايا في جميع أنحاء جسده، وذكر أن العبوة تم تفجيرها من بعد بالطائرة.
تقول رواية عائلية بأن “رائد” كان يجلس ذات يوم أمام التلفزيون وشاهد طفلة صغيرة عمرها ست سنوات تبكي أباها الذي قتله الإسرائيليون في قرية “شويكة” المجاورة لطولكرم، وبكى رائد وأقسم لها وهي على شاشة التلفزيون بأن ينتقم لأبيها، ونفذ وعده وبر بقسمه وخرج في ذات الليلة وقتل مستوطناً وجرح آخر وبقي يقاتل حتى لقي الله شهيدا.
سنوات عمرك الثلاثين تتوهج صدقاً وطهارة، وأنت هناك في حياتك التي لا موت فيها، تنهل من نبع لا ينبض.
0 تعليق