تعفن الدماغ: هل هي آفة هذا الزمان؟

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

آخر ما تريده البشرية، أن يضاف إلى قائمة ما يهدد استقرارها وديمومتها، التعامل مع آفة جديدة من النوع الذي يأخذ بالعقل الإنساني إلى الحجر الصحي، والوباء المقصود هنا هو "عفن الدماغ" أو "تعفن المخ"، والمعتمد كمصطلح من قبل جامعة أوكسفورد في نهاية العام المنصرم، بناء على استفتاء طُرح للمناقشة العامة وقام بتحليله جمع من الخبراء، ليدرج وبشكل رسمي على قاموسها الشهير.

وقد بررت الجامعة اختيارها واعتمادها للمصطلح باعتباره عنواناً لظاهرة ثقافية خطيرة وواسعة الانتشار يتأثر بها من يُفرط في استخدام تقنيات التواصل الافتراضي ليصل المستخدم لمرحلة من التدهور اللاإرادي لقدراته الفكرية بسبب استهلاك المواد التافهة وعديمة الفائدة على فضائها، ويختبر فيها نوعاً من الضبابية المخيفة والمهددة للصحة النفسية، والتي ينتج عنها الدخول في دوامة من الكآبة وعدم الرضى المرَضي.

وبعيداً عن التوصيفات الأكاديمية بأعراضها الإكلينيكية لهذه الظاهرة المتسللة للعقول، فإن التعفن الدماغي، هو ببساطة شكل جديد من أشكال الإدمان العديدة التي قد ينتبه المدمن إلى سيطرتها، إن رحمه ربي، أو قد لا يعي أبداً ما يدمن، وهنا الابتلاء الأكبر، لأنه، أي المدمن، يتصور أن إدمانه أمر طبيعي، وبالتالي يسمح لحواسه وجوارحه بالاندماج في عوالم بيئته الافتراضية التي يألفها أكثر من جدران منزله، وهو يسلّم عقله وروحه لمنصات هلامية بحثاً عن دوبامين التسلية والمغامرة التي تتنافس -بدورها- وتتفنن في إنتاج ما يؤدي في أغلب الحالات إلى إفلاس العقل واكتساب قيم تدفع بالإنسان إلى مستنقع الانحطاط الفكري.

قد يقول البعض، ما هذا الوصف السوداوي لتقنيات العصر الحديث التي من المفترض أنها أداة مساعدة لتطور المجتمعات، لا أداة تلاعب في المصير الإنساني، ولماذا نأخذ بهذه القضية، التي هي عرض جانبي قابل للاحتواء والسيطرة، إلى خانة الاقتتال المميت بين الآلة والإنسان، والتعامل مع ظواهرها كنذير شؤم على صحة وسلامة العقل وتعرض رأس ماله المعرفي للجفاف والتجمد؟

سأترك الإجابة هنا، للسيد المتقعر في الاختراعات التكنولوجية الحديثة، بيل غيتس، الذي يبدو، ضمن تصريحات أخيرة له، في غاية القلق على مستقبل الأطفال تحديداً، بسبب التأثيرات السلبية الناتجة، لا محالة، من هيمنة تقنيات التواصل الاجتماعي على حياتهم، وحرمانهم من اللعب الحر، والقراءة الحرة، والتفكير الحر، والتواصل الشخصي والمباشر مع أقرانهم، ليتحولوا إلى روبوتات سجينة في تلك الجدران الافتراضية التي تفصلهم عن الواقع وتفقدهم الإحساس بقيمة الوقت، وتحرمهم من الاستمتاع بتجارب الحياة.

وبحسب هذه التحذيرات التي لا تصدر عن عموم البشر، بل من أعرق المؤسسات الأكاديمية وأكبر القامات الضليعة في إدارة اقتصادات التقنية والابتكارات الذكية، فالعقل الإنساني يُتنبأ له بالانهزام والاستسلام أمام "آلهة الآلات" متى ما أَدمن زبدها وأُشبع بعفنها الذي يصله، بكبسة زر، من على المنصات المعنية بتحويل الكرة الأرضية إلى قرية كونية.. ولا فرار ولا فكاك من عدواها الرقمية.

وهذا في حد ذاته طرح خطير ويستدعي الالتفات له على كل مستوى من مستويات التحصين العقلي والروحي والنفسي لبني البشر، ويتطلب مراجعات فكرية عميقة وطارئة لاستعادة مكانة العقل وحريته، وهنا -والقول هنا مكرور- يأتي دور المؤسسات، أسرية، أو تعليمية، أو دينية، أو إعلامية، أو ثقافية في تثوير الإنسان على مساوئ الثورة التقنية.

ولكني أعود لأسأل، واسمحوا لي جهلي وإسرافي في سؤالي، إذا كان تعفن الدماغ في هذا الزمان هو بسبب ما يصنعه الإنسان ويسلطه على عقله، فماذا إذن عن علل الدماغ المزمنة النابعة من محض إرادته، وأوحش تلك العلل هي ما يفقد الإنسان قدرة التفكير العقلاني والمستقل، فيبقى أسيراً لما يمليه عليه عقله العليل الذي يأمره بالهوان والاستسلام والخذلان، وبالإقامة الجبرية في كهوف الأوهام والخرافات وأساطير آخر الزمان، فيصبح عبداً مملوكاً ومقدساً لوكلاء التراث الغابر وملاك صكوك الغفران الوهمي، ولوعود قادة الضياع والهلاك بالنصر المزيف والموت الزؤام!

.. ما أبشعه من ضرر يصاب به رأس الحكمة الإنسانية، وأحسبه من أصعب أنواعه على الإطلاق!

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق