في قتال استمر لمدة نحو 475 يوما وبشكل متصل في أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ إنشائها - عام وبضعة أشهر منذ السابع من أكتوبر عام 2023 - وراح ضحيته أكبر عدد من الشهداء والمصابين في مواجهات متصلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي خسائر لا تقارن فيها الخسائر البشرية والمادية الفلسطينية (أكثر من 150 ألف شهيد وجريح فلسطيني مقارنة مع نحو ثمانية آلاف قتيل وجريح إسرائيلي وهي أعلى خسائر يتم تسجيلها في الجانبين على امتداد السنوات الماضية منذ أربعينيات القرن الماضي، فإنه من الصعب وليس المستحيل بالطبع التيقن من استمرار الهدوء على جبهة غزة واليقين بالتزام إسرائيل التي حرصت على الحصول على ضمانات من كل من بايدن وترامب للدخول في حرب مرة أخرى ضد الفلسطينيين إذا انتهك الفلسطينيون الاتفاق أو إذا عادت حماس إلى تسليح نفسها وذلك لأسباب عديدة ظهر بعضها في الاعتراض على الاتفاق قبل التصديق عليه. ولطمأنة الداخل الإسرائيلي في الأيام الأخيرة.
وبغض النظر عما هو معروف بشأن سريان الاتفاقيات بين الدول بوجه عام وخاصة العسكرية منها ومحاولات التلكؤ من هذا الجانب أو ذاك كما حدث بالنسبة لاتفاق وقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين في غزة، فإن تنفيذ الاتفاق يحتاج باستمرار إلى جدية والتزام الأطراف المعنية وإلى متابعة جادة لضمان التزام الفرقاء بما تم الاتفاق عليه تجنبا للدخول في جدل ومماحكات لا حاجة إليها سوى لإضاعة الوقت واختلاق المشكلات التي لا حاجة إليها إلا في نفس يعقوب أو للتحلل من الاتفاق وإفشاله لسبب ما.
على أية حال فقد خطا الاتفاق الأحد الماضي الخطوة الأولى على طريق التنفيذ العملي ويتطلع الكثيرون، خاصة على الجانب الفلسطيني إلى المضي قدما في تنفيذ الخطوات التالية واختبار مصداقية النوايا أمام الجميع. وفي حين حاول كل من ترامب وبايدن ادعاء الفضل الأكبر في إنجاز الاتفاق ولو بالتهديد وهو ما حدث من جانب الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب حتى التصديق الإسرائيلي على الاتفاق، فإن موقف بايدن اتسم في الواقع بضعف لم تستطع مزاعم بايدن ولا ادعاءات بلينكن أن تضفي عليه قدرا من ثقة العالم في الأخذ بجدية تهديدات الرئيس الأمريكي المنتخب رغم استهجانهم لها. وإذا كان الاتفاق قد دخل بالفعل حيز التنفيذ صباح أمس الأول بتوقيت غزة فإن الخطوات الأخرى التالية ستحتاج إلى كثير من المتابعة من جانب اللجنة التي تم تشكيلها لمتابعة التنفيذ بالتنسيق بين مصر وقطر والولايات المتحدة وإسرائيل وهو ما سيتابعه العالم للوقوف على مواقف الأطراف المختلفة وميل كثيرين إلى التيقن من حدوث مشكلات مختلفة حاولت إسرائيل اختلاقها حتى قبل تنفيذ الاتفاق عمليا وهذا ديدن إسرائيل عادة كما ظهر من قبل وكما سيحدث عادة في الفترة القادمة على الأرجح.
وإذا كانت إسرائيل لا يهمها أن تتنكر لتعهداتها ولو كانت تعاقدية كما لا تتورع أن تنقض التزاماتها مهما كانت إلا إذا شعرت أنها لن تتمكن من الوفاء بما تعهدت بالوفاء به لأسباب مختلفة، فإن المسافة الواسعة بين تعهدات نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل وتأكيده أن كل ما يهمه هو إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس يجعل من اليسير افتراض أن إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين جميعهم ـ أو بعضهم بأي شكل من شأنه أن يطلق يد الجيش الإسرائيلي في العمل والعدوان ضد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى وهو ما يتوقعه الكثيرون بعد تحرر الإسرائيليين من ضغوط المحتجزين حتى بعد وقت قصير من تحرير بعضهم أو أكبر عدد منهم حسبما تسير الأمور، وهو ما يمكن أن يثير مشكلات عديدة ويصعب التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه، خاصة وأن هناك خلافات داخل مجلس الوزراء الإسرائيلي ظهرت بوضوح في الاجتماع الأخير للمجلس قبل أيام. من جانب آخر فإن هناك مشكلات أخرى تترتب على ما قامت به القوات الإسرائيلية من توسع على حساب الأراضي السورية (المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل ) وكذلك مماحكات إسرائيل ضد محور فيلادلفيا بين غزة ومصر وكذلك بالنسبة لمعبر رفح وتشغيله. أما بالنسبة لإدارة قطاع غزة والإشراف عليه في الفترة بعد الانسحاب الجزئي أو الكلي من جانب القوات الإسرائيلية من القطاع حسب الاتفاق فإن الخلافات حول مسؤولية إدارة القطاع والإشراف عليه قد أتاحت الفرصة لظهور الخلافات المزمنة بين فتح وحماس وكذلك اتضح ضعف موقف القيادة الفلسطينية في تشكيل لجنة مساندة في غزة لدعم إدارة القطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي منه وهو ما يمكن أن يفتح المجال لمشكلات أخرى حول إدارة القطاع في المستقبل والدور الذي يمكن أن تقوم به حماس في إدارة القطاع والاتفاق حول سبل ذلك بأقل الخلافات التي تجعل الساحة الفلسطينية مفتوحة لتدخلات عربية وغير عربية وإقليمية لا يحمد عقباها في الواقع وهو ما حدث عمليا في السنوات الماضية بأشكال مختلفة.
أما بالنسبة لإعادة إعمار القطاع والوقت الذي يستغرقه والتكلفة المالية التي يحتاجها وهي في حدود ثمانين مليار دولار والعدد الكبير من المنازل التي هدمت جزئيا أو كليا وكيفية الترتيب لإعادة بناء كل الخدمات تقريبا لكل أنحاء القطاع مرة أخرى والذي قد يتطلب إعادة التخطيط وشق المحاور وإعادة إنشاء وتشغيل الخدمات فإنه يمكن القول أن تنسيق ذلك يتجاوز الإمكانات الفلسطينية المالية والإدارية والتنظيمية والبشرية وغيرها ونتمنى أن تكون الدول العربية الغنية قادرة وراغبة أيضا في القيام بدور كبير ومناسب في هذا المجال حتى يمكن تشجيع الدول الأخرى، عربية وغير عربية، للمساهمة في هذا الجهد الذي سيستغرق سنوات بالضرورة ودون أية مبالغة. أما الحديث عن توزيع الحصص أو المساهمات فإنه قد يفتح المجال أمام خلافات عديدة بين الأشقاء سواء بحسن نية أم بدونها وبما قد يترتب على ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة. صحيح أن جهدا ضخما لإعادة الإعمار يمكن أن يستوعب أعدادا كبيرة من الأيدي العاملة في قطاع غزة وفي دول عربية أخرى، ولكن ذلك كله من شأنه أن يفتح المجال أمام مزيد من التعاون والتنسيق العربي للتعامل مع حجم أعمال ضخم يمكن أن يسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية وتشغيل الاقتصاد في الدول العربية المختلفة إذا لم تلجأ بعض الدول إلى المناورة وإلى أساليب غير مقبولة للحصول على نصيب كبير من كعكة الأعمال التشغيلية وخاصة أن الأمر سيكون مفتوحا على الأرجح للمشاركة الإقليمية والدولية بشكل أو بآخر مما يزيد من وطأة المنافسة بين الأشقاء وربما توسيع نطاق ومجالات المنافسة بكل ما يترتب على ذلك من نتائج ربما بدأ البعض عربيا وإقليميا في الاستعداد لها بشكل أو بآخر حتى لا يضيع وقتا أو يخسر في حالة المنافسة في وقت حرج اقتصاديا وماليا وإنسانيا واجتماعيا أيضا.
من جانب آخر فإن حجم عمليات إعادة الإعمار والمدى الزمني للقيام به - عدة سنوات - قد تتجاوز العشر سنوات في ضوء حجم واتساع عمليات الهدم ومسح أحياء بكاملها في غزة ورفح وجباليا وغيرها قد يجعل البعض يفكر عربيا في تكوين مؤسسات أو جمعيات تتعاون للقيام بمهمة إعادة البناء أو تقسيمها على الأقل لأنها ضخمة ولا تستطيع مؤسسة أو عدة مؤسسات القيام بها إلا إذا توفرت لها إمكانيات كبيرة بل وكبيرة جدا، فهل يمكن السير في هذا الطريق، وهل يمكن التغلب على المشكلات التي قد تظهر أو التي يتعمد البعض خلقها لإثارة مشكلات أكبر بين الأشقاء في هذا المجال ولا يمكن الاعتماد عليها. أما الخبرة الأجنبية فإنها بالتأكيد مكلفة وتحتاج إلى تمويل معقول وإدارة رفيعة المستوى وموثوقة والحال العربية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي لا تشجع في الواقع على المضي قدما في هذا المجال. ولذا فإنه من المهم مناقشة هذا الأمر عربيا في مؤتمر متخصص أو أكثر لبلورة أفضل رؤية ممكنة يمكن أن تعود بالخير على الحاضر والمستقبل العربي، ويمكن أن تفيد أيضا العمل والتعاون العربي المشترك الذي تفكك وضعف إلى حد كبير في السنوات الأخيرة.
على أية حال فإنه يمكن القول دون مبالغة إن العشرية السوداء الأخيرة التي تنتهي في هذه الفترة تركت الساحة العربية أكثر ضعفا وأقل تماسكا وأكثر انغلاقا على الذات وأقل رغبة في العمل الجماعي المشترك وهذه سمات لا تشجع على العمل المشترك وفي مواجهة ذلك فإن الحروب والمواجهات المسلحة والتنافس السلبي بين الأشقاء يوفر في الواقع مناخا يمكنه أن يشغل كل دولة عربية بمشكلاتها الذاتية إلى حد كبير. فأي الطريقين سنسلك ومتى يمكن أن نخرج من السنوات العجاف التي امتدت أطول من اللازم؟
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
0 تعليق