أدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمس اليمين الدستورية رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية وسط مشهد عالمي أكثر تعقيدا مما كان عليه عند بدء رئاسته الماضية.
كان العالم في عام 2017 عندما دخل ترامب البيت الأبيض لأول مرة يشهد صعودًا للقوى غير الغربية، وتراجعا للهيمنة الأمريكية التقليدية.. لكن العالم اليوم يبدو أكثر انقساما واستقطابا؛ فالحرب في أوكرانيا لا تزال مشتعلة، والتوترات في بحر الصين الجنوبي تتفاقم، والشرق الأوسط يغلي على وقع التحولات الجيوسياسية العاصفة التي شهدها خلال حرب طوفان الأقصى. لكن العالم الذي شاهد ترامب وهو يعود ثانية للبيت الأبيض أمس يراقب أولوياته السياسية التي قد تعيد تشكيل ملامح النظام الدولي.
ومنذ حملته الانتخابية، لم يخفِ ترامب عزمه على إعادة إحياء شعاره الشهير «أمريكا أولا»، وهو ما يعني مراجعة التحالفات الدولية، والتعامل مع الحلفاء من منطلق الربح والخسارة، لا القيم والمبادئ المشتركة. هذا التوجه الاستراتيجية من شأنه أن يربك أوروبا التي تعيش خطر الحرب الأوكرانية ويضعها أمام اختبار صعب جدا وهي التي كانت تعتمد على مدى عقود طويلة على المظلة الأمنية الأمريكية. وإذا قرر ترامب تقليص الدعم العسكري والمالي لكييف، أو انسحب مجددًا من التزامات واشنطن تجاه الناتو فإن أوروبا ستعيد أسوأ أربع سنوات في تاريخها الحديث خاصة إذا ما استغلت روسيا توجهات ترامب السياسية في تحقيق أهداف عسكرية في أوكرانيا.
ورغم أن أوروبا أكثر المترقبين لبرنامج ترامب السياسي إلا أن الشرق الأوسط قد يكون الساحة الأكثر تأثرًا بعودة ترامب الذي تنتظره ملفات شائكة بدأ حسم بعضها عشية دخوله البيت الأبيض فيما تبقى أخرى تبحث عن حسم جديد. ولكن حتى هذه الملفات التي انشغل بها ترامب في فترة رئاسته الأولى لم تعد كما كانت. قضية غزة لم تنته وإن بدا أن وقف إطلاق النار وبدء تبادل الأسرى قد أزاح العقبة الأصعب ولكن منطقة الشرق الأوسط تتشكل الآن وفق معطيات جديدة تماما فرضتها حرب غزة.. حتى إيران التي عرفها ترامب في رئاسته الأولى لم تعد كما كانت بعد حرب غزة وبعد أن أعادت تشكيل تحالفاتها مع دول عربية أو مع روسيا.. حتى فيما يخص تخصيب اليورانيوم فإن
إيران أكثر تقدمًا في التخصيب مما كانت عليه في عام 2020 وهي أيضا، أكثر جرأة في تحدي العقوبات. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هل يذهب نحو مواجهة مباشرة، أو يعيد التفاوض بشروط أكثر صرامة؟
على الجانب الآخر، هناك ملف تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل والذي يتوقع أن يعود له ترامب خلال الأيام القادم مستغلا إرث اتفاقات «أبراهام». لكن أي خطوة في هذا الاتجاه قد تصطدم بتداعيات الحرب الأخيرة في غزة، التي أعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأثارت موجة غضب في الشارع العربي، وستكون الدول العربية التي قد ترغب في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل أمام حرج شعبي عربي وربما أمام حرج شعبي عالمي بعد المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة وسيكون منطقيا ثمن أي تطبيع جديد إعلان دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل.
أما دول الخليج، فستكون في قلب استراتيجية ترامب للطاقة، إذ يسعى إلى تعزيز الإنتاج النفطي الأمريكي لتقليل الاعتماد على الخارج، بينما يواصل الضغط على «أوبك+» لضبط الأسعار وفق المصالح الأمريكية. ولكن هل يمكن لترامب أن يفرض على السعودية التي تتزعم «أوبك+» قرارات لا تتماشى مع تحولاتهما الاقتصادية واستقلالية قراراتهما السياسية؟
لا يمكن تصور أن عودة ترامب يمكن أن تكون مجرد تغيير إداري في البيت الأبيض، بل هي إعادة خلط للأوراق على المسرح الدولي والمسرح الأمريكي الداخلي والذي قد يعمد ترامب إلى إعادة تشكيله عبر بناء مؤسسات جديدة وهدم مؤسسات قائمة.
الحلفاء والخصوم في الداخل والخارج سيعيدون حساباتهم، والأسواق عليها أن تترقب قرارات ترامب وتغريداته منذ اليوم، والعالم أجمع عليه أن يقف عند مفترق طرق، حيث يمكن لسياسات ترامب أن تعيد رسم ملامح النظام الدولي، إما عبر صدامات جديدة، أو عبر إعادة ترتيب الأولويات وفق نهجه «التجاري» في السياسة. الأيام القادمة وحدها ستكشف كيف سيتعامل ترامب مع عالم أكثر تعقيدا مما تركه قبل أربع سنوات.
0 تعليق