جان بيار سيريني - (أوريان 21) 28 كانون الثاني (يناير) 2025
توترت العلاقات بين فرنسا والجزائر في الأشهر الأخيرة. وبغض النظر عن الخلاف الثنائي، فإن استراتيجية وزير الداخلية، برونو روتايو، الرامية إلى صبّ الزيت على النار لإرضاء اليمين واليمين المتطرف الفرنسي، تجعل البحث عن حلول للمشاكل المطروحة للنقاش أكثر صعوبة.اضافة اعلان
* * *
لم تأت المواجهة الكلامية الأخيرة بين باريس والجزائر من عدم، بل تعود جذورها إلى ربيع العام 2017، عندما وصل إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه. كان الرئيس الفرنسي حينئذ يأمل في إحياء العلاقات الفاترة بين الدولتين من خلال سياسة جديدة، وكتابة ثنائية للتاريخ الدامي المشترك، ودفن ماضٍ لم يستسغه المحافظون من الطرف الجزائري بعد، كما هو الحال أيضا لدى جزء من المجتمع الفرنسي الذي ما يزال يحنّ، بشكل أو بآخر، إلى المستعمرات المفقودة والإمبراطورية الفرنسية البائدة.
بعد ذلك بعامين، في ربيع العام 2019، لم تجر خلافة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة كما كان متوقعاً، وأدت إلى وصول رجل عسكري إلى السلطة، هو قائد الأركان اللواء أحمد قايد صالح، الذي كان عليه مواجهة حراك شعبي قوي وغير مسبوق، عارض في البداية تجديد ولاية الرئيس السابق بوتفليقة، ثم دشّن مسيرات أسبوعية تطالب بحكم مدني وتندد بعهد الجنرالات.
وعلى مدار عام كامل، تظاهر مئات الآلاف من الجزائريين في شوارع العاصمة وفي مدن داخلية أخرى. ونددت قيادة الجيش من جهتها بمؤامرة من تدبير باريس للانتقام من حرب الاستقلال... فكانت الدعاية الرسمية -ببساطة- تدين باستمرار انتقامًا مزعومًا "للحرْكي" —أي العميل— من المجاهد، والخائن من البطل، لتجعل من فرنسا كبش فداء -على الأقل في وسائل الإعلام الرسمية المهيمنة على المشهد الإعلامي في الجزائر.
ثقل حزب "الجمهوريين" اليميني الفرنسي
تعكرت المياه بين البلدين. ومن الواضح أن الذريعة التي ابتدعتها السلطات الجزائرية لم تتوافق مع التأويل التاريخي الذي يريد قصر الإليزيه الحفاظ عليه على الرغْم من كل شيء. وفي العام 2021، نفد صبر الرئيس الفرنسي وانتقد علنًا النظام الجزائري "القاسي جدًا" الذي يضيّق على "صديقه" الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وأرسل ماكرون لتبون دعوة دائمة لزيارة فرنسا.
في حزيران (يونيو) - تموز (يوليو) 2024، وبعد العملية الفاشلة لحلّ "الجمعية الوطنية"، حُرم الرئيس ماكرون من الأغلبية البرلمانية ووجد نفسه أمام معضلة: إما أن يمنح السلطة لخصومه من الجبهة الشعبية الذين أتوا في مقدمة الانتخابات -ولكن من دون أغلبية مطلقة- أو بناء حكومة بتعزيزات من اليمين، من نواب حزب "الجمهوريين" الخمسين الذين نجوا من عملية حل البرلمان ومن الانقسام الداخلي. ولكن، بما أن ذلك لا يكفي، كان عليه أيضًا أن يحاول على الأقل التحكم في اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان -ابنة مؤسس حزب "التجمع الوطني"، جان ماري لوبين.
بمرور الوقت، اختفى من الساحة السياسية الفرنسية الديغوليون (أتباع "شارل ديغول"، زعيم المقاومة الفرنسية والرئيس السابق، تعبيراً عن السياسة التقليدية اليمينية المبنية على السيادة والوحدة الوطنية)، والشيوعيون، الذين كانوا يؤيدون وفاقًا فرنسيًا-جزائريًا. ومن جهته بذل النظام الجزائري كلّ ما في وسعه لعزل نفسه عن الرأي العام الفرنسي، فاتخذ -بسبب سلطويته- من اليسار عدوًّا يلومه على ملاحقة الصحفيين والنشطاء، وعزل نفسه عن الشباب وعالم الثقافة بطبعه المحافظ اجتماعيًا ودينيًا، وفقد -بنزعته القومية- الاتصال باليمين الحكومي… ليُفاجَأ برسالة رئيس الجمهورية الفرنسية في 31 تموز (يوليو) 2024 التي يدعم فيها الملك محمد السادس في قضية الصحراء الغربية التي تحتل القوات المسلحة الملكية معظم أراضيها.
نهاية الحياد حول الصحراء الغربية
تخلّت باريس عن موقفها الذي دام أكثر من 30 عامًا الداعم لحق الشعوب في تقرير مصيرها لصالح الاعتراف بالسيادة المغربية على هذه المستعمرة الإسبانية السابقة. وكان توقيته سيئًا بالنسبة للجزائر التي كانت تستعد للانتخابات الرئاسية في بداية شهر أيلول (سبتمبر) 2024، وهي فترة معقدة، ما بين ضمان الاحترام المعلن للقواعد الديمقراطية و... ضمان نتيجة معروفة سلفًا.
وفي ظل تعكير العلاقات، تم استدعاء السفير الجزائري بباريس، في حين حُرمت الشركات الفرنسية في الجزائر من خطابات الاعتماد المصرفية لمدة أسبوع، كما جُمَّدت العلاقات بين جهازيْ الاستخبارات على حساب الكفاح المشترك ضد جهاديي تنظيم "داعش".
صحيح أن مسألة الصحراء الغربية شأن من شؤون الدولة، لكن الرأي العام الجزائري غير متحمس لإقليم بعيد ومكلف للمال العام. أما النظام الجزائري، فقد رأى إهانة وطنية في الانعطافة الفرنسية، التي تلت انعطافة مدريد حول قضية الصحراء الغربية. وبالنسبة للأوساط الإسلامية، فهي هِبة مباركة داعمة لخطابهم الدائم ضد العاصمة الاستعمارية السابقة وأتباعها، من دون التطرق إلى الإعلام المحلي الذي تناول القضية بحماسة.
أدى اعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري، بوعلام صنصال، في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 بعد نزوله من الطائرة في مطار هواري بومدين في الجزائر إلى مزيد من التدهور في العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. في الجزائر، يُنظر إلى صنصال على أنه من أنصار المغرب المكروه بعد ادعائه أن سلطان المغرب كان يسيطر في القرن التاسع عشر على جزء كبير من إقليم وهران، أي أنه باختصار "خائن" للقضية الوطنية. في المقابل تستنكر باريس -محقة- هذا الاعتداء على حقوق الناس باسم حرية الرأي، وتحركت الأوساط الفكرية واليمين واليمين المتطرف كذلك.
وانضم أحد الوزراء، وليس أي وزير، وزير الداخلية برونو روتايو، إلى المعركة بقوة أكبر. فمنذ تعيينه في بداية شهر أيلول (سبتمبر)، أعلن بوضوح عن نيته تصفية الحسابات مع الجزائر، خاصة في مَا يتعلق بمسألة الجوازات القنصلية -التي من الصعب الحصول عليها- والتي تُعدّ ضرورية لتنفيذ قرارات مغادرة التراب الوطني الصادرة عن السلطات الفرنسية. وقد منحه رئيس بلدية مونبيلييه الفرصة. كان هناك أربعة جزائريين يشتمون ويهددون بعضهم بعضًا على "تيك توك"، باللهجة الدارجة -وهي عامية عربية يفترض أنها غير مألوفة لدى المسؤولين الفرنسيين- وأُلقي القبض عليهم واقتيدوا إلى العدالة. وتجاوز روتايو بسرعة القضاة، فقام بطرد أكبرهم سنًا صحبة فردين لا أكثر من الدرك الوطني، وهو عامل نظافة ورب أسرة في الخمسين من العمر متهم بـماض جنائي عاصف والتلفظ بكلمات مثيرة للجدل.
برونو روتايو، الجهل والذقن المتبجّح
بالنسبة لوزارة الداخلية الفرنسية، كانت الخطوة رابحة مهما حدث. فإما أن تقبل الجزائر بالأمر الواقع في ظل عدم احترام الإجراءات، فتكون باريس قد حصلت على الحل السحري لتكرار العملية وإرضاء زبائنها الانتخابيين؛ أو أن يُرفض استقباله ويُعاد من حيث أتى -هنا أيضًا في تحدٍ للقواعد- فتكتسب الحملة المعادية للجزائر زخمًا جديدًا. وقد أُعيد الطرد فعلاً إلى المرسل ورجع "التيكتوكر" إلى باريس على متن نفس الطائرة، وركب روتايو الجنون وانفجر غضبًا، موجهًا خطابه إلى ناخبيه ومنددًا برغبة الجزائر في "إذلال" فرنسا. وعدّد، بلا ترتيب، الإجراءات الانتقامية المتاحة، وندّد بالاتفاق الفرنسي-الجزائري لسنة 1968 حول الهجرة، وندد بإعفاء حاملي جوازات السفر الدبلوماسية من طلب تأشيرة الدخول. وطالب كذلك -في إشارة إلى جهله بالوقائع- بزيادة الرسوم الجمركية على الواردات الجزائرية إلى فرنسا، وهو اختصاص حصري للمجتمع الأوروبي ببروكسل منذ معاهدة روما للعام 1957، أو تخفيض عدد التأشيرات، وهو إجراء اعتبره زميله وزير العدل جيرالد دارمانين "غير فعّال". وتفاعلت الصّحافة على ضفتي المتوسط لفترة قصيرة، ثم انتقلت إلى أمور أخرى.
مرت اللحظة المتوترة بسلام، وهناك سابقة تؤيد ذلك؛ بعد عامين من إدانته بنفس الجريمة التي ارتكبها الرئيس ماكرون، تمت تبرئة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بتكتم قبل بضعة أشهر، وعاد السفير الجزائري إلى مدريد وعادت العلاقات التجارية إلى مجراها. لكن هناك مع باريس تعقيد إضافي، يتمثل في وجود مئات الآلاف من الجزائريين أو الجزائريين/ الفرنسيين الذين يشعرون بالقلق من عدم احترام الإجراءات من الجانبين: فلم يقم ريتيللو بتبليغ القنصلية الجزائرية في مونبلييه بقراره -كما تقتضي الاتفاقية الفرنسية الجزائرية- وطردت الجزائر أحد رعاياها بدلًا من استقباله.
في انتظار توضيح ملف الطرد، استعاد قصر الإليزيه زمام الأمور وأوفد إلى الجزائر نيكولا ليرنر، رئيس مديرية الأمن الخارجي، وهو متخصص في المفاوضات السرية. ولم تصدر أي معلومة، ولم تذكر الصحافة الجزائرية شيئًا عن الموضوع، غير أن وزير الخارجية، جان نويل بارو، صرح أمام الجمعية الوطنية ثم عبر إذاعة RTL الفرنسية، نافيا وجود أي "توتُّر" بين العاصمتين وأشاد بـ"القوتين الجارتين"، قبل أن يتم التطرق إلى زيارته المحتملة إلى الجزائر. أما وزير القوات المسلحة، سيباستيان ليكورنو، الذي شارك في النقاش، فهو يفضّل مساراً أكثر طموحاً، يتمثل في تجديد العلاقات بين الدولتين. وفي نفس اليوم، 22 كانون الثاني (يناير)، أعلن وزير الداخلية عن اعتقال صانع محتوى جزائري إسمه "رفيق م." قبل أن ترد عليه النيابة العامة التي صرحت بأنه "لا يوجد أي شيء ضد رفيق م. في هذه المرحلة"، وأنه "ليس رهن الاعتقال لدى الشرطة". وما تزال لعبة الكرّ والفرّ بين رئيس الجمهورية ووزير داخليته مستمرة.
*جان بيار سيريني: صحفي ومدير سابق لمجلة "لو نوفيل إيكونوميست" Le nouvel Economiste، ورئيس تحرير سابق لمجلة "الإكسبريس" L’Express. له كتب عديدة حول مواضيع مختلفة، منها المغرب العربي والخليج والطاقة وأرباب العمل والجمهورية الخامسة. ترجم المقال من الفرنسية حميد العربي.
0 تعليق