شيفرة حلول الملفات العالقة في عاصمة البدو

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الهيبة تفرض ولا تؤخذ، والتقدير والاحترام كذلك. تلك أمور لا تجلب بالمال ولا النفط، لأنها لا تشترى ولا تباع. والثقل كذلك، يأتي من خلال المواقف الثابتة، والإقدام دون تردد، وهذا بحاجة إلى أخلاقيات راسخة. والأخلاقيات لا تكتسب، إنما تولد مع الإنسان.

المملكة العربية السعودية لم تسعَ يوما للحصول على ثقلها من أحد، أو مقابل مال أو مواقف. ولم تجامل أحدا منذ أكثر من ثلاثة قرون. ولم تتنازل عن المبادئ التي أطرها الأجداد منذ ذلك الوقت. ولم تقبل الإملاء من أحد أيضا طوال تلك الفترة.

جاء يوما ما الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت بمحض إرادته للملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن. لم يأتِ مجاملة، ولم يختر المملكة بحثا عن نفوذ أو حفنة من براميل النفط. لقد جاء لتأسيس علاقة بلاده مع السعودية، وهذا ليس منة ولا فضلا منه؛ إنما نتيجة الإدراك الأمريكي آنذاك على محورية الدولة - أي المملكة - وأهميتها الاستراتيجية، التي تنبأت بها الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية. وكذا الحال بالنسبة للاتحاد السوفييتي وقتذاك. فقد كانت موسكو أول دولة تعترف بالمملكة، وأول من أقام معها علاقات دبلوماسية في مثل هذا الشهر «فبراير» من عام 1926.

حينذاك لم يولد بعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ولم يأتِ على الدنيا شخص اسمه فلاديمير بوتين، المدعو القيصر، ربيب المخابرات الروسية، والذي يجيد تشريح الخرائط.

لماذا جئت على ذكر الرئيسين؟ طبعا ليس اعتباطا، إنما للحديث عن اختيارهما العاصمة السعودية الرياض مقرا للقاء يعد الأول من نوعه، بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وهو الأول أيضا في ولاية ترامب الثانية. ما الهدف من هذا الاجتماع؟ بحث كيف لتلك الحرب أن تضع أوزارها.

وهذا اللقاء بين زعيمي أقوى دولتين على وجه الأرض، في الرياض، يحتوي بمضمونه إشارات بحاجة للنظر لها بعمق، وليس سطحية و شعبوية. مثل ماذا؟ أولا: أخذ العاصمتين - واشنطن وموسكو – توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، لولي العهد الأمير محمد بن سلمان؛ بالقيام بوساطة بين القيادتين الروسية والأوكرانية، بعد اندلاع الأزمة، لإنهاء الحرب بحلول سياسية تقود لسلام دائم، بعين الاعتبار.

وقد امتثل ولي العهد لذلك الأمر، وبذل جهودا بين موسكو وكييف، لتحقيق السلام. فالاتصال الذي أجراه الأمير محمد بن سلمان في مارس 2022، مع بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كان أحد صور المساعي السعودية الحميدة، التي رأت ضرورة الوصول لحل سلمي بين البلدين. بل إنها - أي الرياض - أسهمت ببذل جهود لإطلاق أسرى تلك الحرب، من الطرفين. إذن بالمعنى الواضح والصريح، فالإيعاز الملكي يعد أرضية يستطيع الجميع الاستناد عليها.

ثانيا: ثقل المملكة على الصعيد العالمي. ثالثا: الثقة العالمية في الخط السياسي السعودي. رابعا: لمواقفها المعهودة في حمل رسالة السلام. ماذا أيضا؟ الإيمان بأدوارها الإقليمية والدولية، الرامية لصناعة الاستقرار والسلام العالمي.

وبرأيي هناك سبب جاذب للغرب. ما هو؟ الشجاعة السعودية النابعة من سياستها المنضبطة، التي لا تقبل التزحزح أو التغيير مهما كلف الأمر. وذا سهل استيعابه من خلال متابعة ردود الأفعال الصادرة عن صناع القرار.

مثل ماذا؟ حين ارتفع سقف الهرج والمرج الأسبوع المنصرم وما سبقه، حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي؛ ومحاولات تجاوز مبادرة السلام العربية، التي قدمها الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، في قمة بيروت عام 2002، وتقضي بالتعايش بين فلسطين وإسرائيل، لم تتوانَ الرياض، بعد أقل من 40 دقيقة من لقاء جمع ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من قول كلمة الحق، والإسهاب في إيضاح رؤيتها للعالم، وقطعها أن مواقفها غير متاحة للابتزاز السياسي. وهو ما تسبب بحالة إرباك، في واشنطن وتل أبيب.

وقد أسس الرد السعودي موجة رفض عالمية لإلغاء المبادرة. بل إن دول الاتحاد الأوروبي صدحت بصوتها بألا حل يمكن تحقيقه دون تطبيق المبادرة التي ولدت في الرياض.

قد يرى البعض أن المملكة ما إذا التأمت مع الدول المؤثرة عالميا كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فستضع قضايا الأمة خلفها. هذا غير صحيح، لماذا؟ لأنها في الأصل لم تسعَ لا في هذه القمة ولا غيرها، للحضور على موائد السياسية لمجرد الحضور. ومن ثم فهناك مسلمات في السياسة السعودية، تقوم على عدم تجاوز القضايا العربية العادلة. ولطالما دفعت ثمن رفع صوتها سياسيا.

ومن ضمن أسباب اختيار الرياض لعقد القمة بين واشنطن وموسكو، الحضور السعودي في الذهنية الغربية السياسية على الدوام. فكثيرا ما كانت العواصم الغربية تواقة لسماع رأي المملكة الراجح في عديد من الملفات العالمية. وطالما ما استخدم اسمها في منافسات الديمقراطيات العالمية، إما في انتخابات رئاسية أو برلمانية أو حتى بلدية. وذلك يؤكد أنها، ورقة مغرية وعامل جذب للحكومات والشعوب في آن واحد.

إن اختيار المملكة لذلك اللقاء لم يكن ذا ثمن مدفوع، أو مواقف مستبدلة، أو ارتخاء عن ملف معين. بل نظير تجسيد صوت العقل الأهم والأكثر اتزانا وحكمة في المنطقة.

بناء على ذلك، يمكن فهم أن شيفرة حلول الملفات العالقة تكمن في الرياض.. عاصمة البدو العظيمة. تعظيم سلام.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق