عودة النازحين الجماعية بصورة غير منظمة تزيد، ربما، من استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يفرض ضغوطاً هائلة على السلطات السورية الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني لتلبية حاجات المواطنين بطريقة تعزز الاستقرار والتعافي.
***
أثارت الهزيمة الصادمة لنظام بشار الأسد على يد الجماعات المتمردة، بقيادة "هيئة تحرير الشام"، موجة من التفاؤل المحلي والدولي. ومع ذلك، فإن مستقبل سورية بعد الأسد يقف بالفعل على حافة الهاوية. والعقبات التي تحول دون إعادة إعمار البلاد هائلة، وعلى رأسها قضية اللاجئين الذين أجبروا على مغادرة البلاد خلال الحرب الأهلية السورية التي استمرت لعقد من الزمان. وقد تصبح عودة هؤلاء اللاجئين أكبر عملية إعادة توطين منذ عقود، مع وجود أكثر من ستة ملايين لاجئ سوري في الخارج، وسبعة ملايين نازح داخل البلاد. وعاد مئات آلاف السوريين بالفعل لوطنهم، مدفوعين برغبتهم في تفقد الممتلكات التي تركوها وراءهم، أو الهرب من الفقر والاضطهاد في البلدان المستضيفة، أو لم شملهم مع عائلاتهم، أو المشاركة في الفصل التالي من تاريخ بلادهم.
لكن البلد الذي يعودون له يختلف اختلافاً جذرياً عن البلد الذي غادروه. فدمار المنازل والبنية التحتية الحيوية وفقدان الأحبة، وانتشار الفقر وخطر اندلاع أعمال العنف مجدداً وعدم اليقين المحيط بقادة البلاد الجدد الذين يفتقرون إلى الخبرة، إضافة إلى الأزمة الإنسانية المستمرة منذ العقد الماضي، كلها أمور جعلت الحياة لا تطاق بالنسبة إلى ملايين السوريين الذين ما يزالون داخل البلاد. ومن الممكن أن يعود مئات الآلاف من السوريين الآخرين في الأشهر المقبلة، مما قد يؤدي إلى تفاقم الوضع المتأزم والمزري أساساً. ومن المعلوم أن عودة النازحين الجماعية بصورة غير منظمة تزيد ربما من استنزاف الموارد المحدودة أصلاً في البلاد، مما يفرض ضغوطاً هائلة على السلطات السورية الانتقالية ووكالات الأمم المتحدة والمجتمع المدني السوري لتلبية حاجات المواطنين بطريقة تعزز الاستقرار والتعافي.
إن مستقبل سورية يعتمد على مهمة تاريخية، وهي تيسير عودة اللاجئين السوريين لديارهم في بلد غارق في الاضطرابات، وفي الوقت نفسه تلبية حاجات السوريين الذين ظلوا فيه. والتحدي الآن يكمن في تنسيق هذه العملية بصورة صحيحة. لذا يتعين على الدول المجاورة والمنظمات الدولية والحكومة الانتقالية السورية الجديدة أن تتعاون لإنشاء برنامج لإعادة اللاجئين قادر على إدارة عودتهم وحماية حقوق الفئات الضعيفة وحل النزاعات القانونية المتعلقة بالأراضي وإعادة تشكيل المجتمع السوري بعد الحرب. بطريقة موازية، يتعين على الحكومة الانتقالية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية أن تعمل معاً، رغم الشكوك المتبادلة بينها، لدعم الحاجات الإنسانية العاجلة والمستمرة للسوريين الذين لم يغادروا البلاد قط. فالتركيز على اللاجئين العائدين من دون إيلاء اهتمام كافٍ لمن بقوا من شأنه أن يخلق ظروفاً يمكن أن تدفع البلاد مجدداً إلى أزمة قبل أن تتاح لها فرصة إعادة البناء. هذه لحظة أمل بالنسبة إلى سورية، لكن العمل الحقيقي لإعادة إعمارها بدأ للتو.
في حال تغير مستمر
شهد العام 2024 تحولاً كبيراً في أعداد اللاجئين العائدين لسورية. فمنذ العام 2020، ظل عدد العائدين السوريين سنوياً أقل من 51 ألفاً؛ أي أقل من واحد في المائة من إجمالي 6.8 مليون لاجئ سوري في العالم، مما يمثل أكثر من ربع سكان سورية قبل الحرب. وبحلول آب (أغسطس) 2024، عاد نحو 34 ألف لاجئ، ولكن بعد غزو إسرائيل للبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، فر 350 ألف لاجئ إضافي من لبنان إلى سورية هرباً من الصراع. ومع عودة 125 ألف لاجئ آخرين منذ سقوط الأسد في أوائل كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، بلغ العدد الإجمالي للعائدين العام 2024 ما يقارب نصف مليون شخص. ووفقاً للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، عاد 125 ألف لاجئ آخرين في العام 2025. ومن الممكن أن ينضم إليهم قريباً عشرات آلاف السوريين المعرضين للترحيل القسري من الدول المجاورة التي قد تستخدم رحيل الأسد كذريعة لطردهم.
لكن لا يمكن اعتبار أن كل من عاد ينوي البقاء بصورة دائمة. فكثير من السوريين يعودون لتفقد ممتلكاتهم وتقييم الأوضاع الأمنية والاقتصادية بعد انهيار النظام، أو للالتقاء بأسرهم. وبالنسبة إلى آخرين، فإن العودة هي الخيار الوحيد للهروب من الظروف المتدهورة في البلدان المستضيفة، حيث أدت الصعوبات الاقتصادية وارتفاع كلف المعيشة وتضاؤل الفرص إلى جعل الحياة صعبة أكثر فأكثر. وإذا استقرت الأوضاع في سورية وتحسنت الظروف الاقتصادية في ظل حكومتها الجديدة، فمن المتوقع أن يزداد عدد العائدين الدائمين بصورة كبيرة.
ومن الممكن أن يواجه اللاجئون السوريون في البلدان المجاورة ضغوطاً للعودة قبل الأوان (أو حتى الترحيل الفوري) من البلدان المجاورة التي باتت أكثر مقاومة لاستضافة أعداد كبيرة من اللاجئين، وسط تدهور اقتصادي حاد وضغوط سياسية داخلية، وفي حالة لبنان، حرب خاصة به. وانعكست هذه الضغوط على اللاجئين السوريين في صورة قمع حكومي وحرمان من الإقامة القانونية وعدم منحهم صفة اللجوء وفرض قيود شديدة على الحقوق الأساسية والخدمات الإنسانية. ومما يزيد من تعقيد المشكلة؛ الانخفاض الحاد في تمويل المانحين الدوليين للدول المستضيفة وبرامج إعادة توطين اللاجئين على مدى الأعوام الخمسة الماضية، نتيجة الإرهاق المالي للمانحين والتباطؤ الاقتصادي العالمي بعد جائحة كورونا، مما قلص موازنات المساعدات الإنسانية عالمياً. ويشكل هذا الضغط عبئاً إضافياً على حكومات تعاني بالفعل في تأمين حاجات مواطنيها، مما يغذي دعوات متزايدة من المجتمعات المستضيفة إلى إعادة اللاجئين لبلادهم. وبدأ كل من لبنان وتركيا بالفعل بترحيل اللاجئين السوريين على نطاق واسع منذ العام 2022، وبالتالي العودة لوطنهم رغم استمرار الحرب الأهلية. ومن شأن عمليات الترحيل الجماعي أن تقوض الاستقرار الذي تسعى هذه الدول المستضيفة إلى تحقيقه في سورية.
وفي الوقت نفسه، لن يجد معظم العائدين مكاناً يعودون له داخل سورية وستكون لديهم موارد محدودة لإعادة بناء حياتهم. وفي الواقع، ما تزال مساحات شاسعة من البلاد غير صالحة للسكن بسبب الدمار الذي خلفته الحرب، إذ بقيت أحياء بأكملها ضمن المدن الكبرى، مثل حلب ودمشق والرقة، في حال خراب وقرى بأكملها مدمرة. وانكمش الاقتصاد السوري بنسبة تزيد على 80 في المائة منذ بداية الحرب العام 2011. وأدى انتشار البطالة والتضخم المستشري إلى ارتفاع معدل الفقر إلى 90 في المائة. ويؤدي الافتقار إلى البنية الأساسية والمياه النظيفة والكهرباء والرعاية الصحية والمدارس إلى تعقيد إمكان إعادة الاندماج (أي عودة النازحين وانضمامهم إلى المجتمع بعد فترة من الغياب) على نطاق واسع. ووجد عدد كبير من العائدين أن منازلهم استولى عليها آخرون أو تعرضت للدمار الكامل، مما أدى إلى نشوب نزاعات على السكن والأراضي والملكية. وفي غياب هيئات رسمية قائمة للتوسط، فإن هذه الخلافات غير المحلولة من المرجح أن تؤدي إلى تصعيد التوترات وتزيد من تقويض الاستقرار الهش الذي نشأ بعد سقوط الأسد.
التعاون الجماعي يحقق النتائج
في سورية، كما هي الحال في أي بلد بعد الصراع، فإن العودة الطوعية للاجئين تستلزم أكثر من مجرد عودتهم لديارهم. فهي تتطلب تحسناً شاملاً للأبعاد السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية المتشابكة. وفي حين أن العودة للوطن عملية مستمرة وثابتة، إلا أنها غالباً ما تُعامل على أنها مسألة ثانوية من الجهات الفاعلة الحكومية التي تعطي الأولوية لبناء الدولة وتحقيق الاستقرار والتعافي المبكر وإعادة الإعمار. ونتيجة لذلك، يمكن أن تحدث العودة بصورة فوضوية من دون أي هيكل أو تنظيم، مما يجعل العائدين عرضة للخطر ومنفصلين عن الجهود الأوسع التي تهدف إلى تعافي السكان الموجودين.
لتجنب الوقوع في هذا الفخ، تحتاج سورية إلى وضع خطة متماسكة لإعادة اللاجئين المبكرة إلى الوطن من أجل ضمان دمج العائدين في عملية التنمية الطويلة الأجل وعدم تقويض عملية التعافي. ويمكن للحكومة الانتقالية السورية إنشاء إطار تعاوني من خلال التعامل مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؛ الوكالة الرائدة المعنية بإدارة عودة اللاجئين، ومع الدول المجاورة، بما في ذلك الأردن ولبنان وتركيا، لإدارة العودة المستمرة بصورة فاعلة وضمان وفاء الجهات الفاعلة الإقليمية بتعهداتها لمنع العودة القسرية. كما يجب على دول اللجوء أن تعِد بعدم دفع اللاجئين إلى العودة وأن تسمح لـ"المفوضية السامية لشؤون اللاجئين" UNHCR بإدارة عملية عودة طوعية تدريجية ومنظمة وأن تمنح حق العودة للسوريين الذين يختارون العودة مؤقتاً لسورية في "زيارات استطلاعية" لتقييم الظروف. وينبغي للمفوضية والمجتمع الدولي تحفيز الدول على احترام هذه الالتزامات من خلال ربط المساعدات الإنسانية والتنموية بالامتثال. ويمكن استخدام حزمة مساعدات التنمية التي قدمها الاتحاد الأوروبي للبنان العام 2024 والمساعدات الإنسانية والتنموية بقيمة 1.2 مليار دولار التي يتلقاها الأردن من الولايات المتحدة سنوياً، كأدوات ضغط فاعلة بصورة خاصة.
يمكن أيضاً الاستفادة من الدول المانحة غير التقليدية، بخاصة دول الخليج العربي، لتوفير موارد إضافية تحفز دول اللجوء على الامتثال. كذلك، يمكن في وقت لاحق توسيع إطار إعادة اللاجئين إلى وطنهم ليشمل الاتحاد الأوروبي ودولاً أخرى تستضيفهم خارج الشرق الأوسط، بحيث يمكن إدارة العودة الطوعية من أوروبا بصورة مستدامة بالتنسيق مع "مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" عندما تتحسن الظروف الاقتصادية والأمنية في سورية. وإذا انزلقت سورية مرة أخرى إلى الصراع، فإن العودة المتسرعة أو القسرية لن تؤدي إلا إلى موجات جديدة من تشريد العائدين الذين قد يفرون مرة أخرى إلى البلدان المجاورة بحثاً عن الأمان. لذا، فإن إنشاء نهج واضح ومنسق من شأنه أن يساعد في تجنب الدفع الخطر نحو العودة الجماعية قبل أن تكون البلاد مستعدة لذلك.
ستكون حكومة تصريف الأعمال في سورية مسؤولة عن إدارة العودة على نطاق واسع، لكنها بحاجة إلى تعزيز قدرتها المؤسسية لتحقيق ذلك بصورة فاعلة. إن إعادة بناء مؤسسات الدولة أمر بالغ الأهمية لاستئناف تقديم الخدمات العامة وإعادة تأهيل البنية التحتية واستعادة الخدمات المدنية الأساسية، رغم أن إعادة بناء قطاع عام قادر على تنفيذ هذه المهمات سوف تستغرق وقتاً طويلاً. وستتحمل هذه الحكومة المؤقتة أيضاً مسؤولية معالجة التحديات التي سيواجهها العائدون، بما في ذلك ضمان حمايتهم وتعزيز عملية إعادة اندماجهم في المجتمعات المحلية واستعادة حقوقهم في السكن والأراضي والممتلكات وبناء مساكن ومجتمعات جديدة للسوريين الذين يعودون لديارهم ليجدوا أن الحياة التي تركوها وراءهم دُمرت بالكامل بسبب الحرب. وستحتاج الحكومة إلى تنظيم عملية توثيق الأحوال المدنية وإنشاء آليات قانونية شفافة لحل النزاعات على الأراضي والممتلكات وتوفير الحماية والدعم للفئات الضعيفة، بما في ذلك الأقليات والنساء والأطفال ذوو الإعاقة. وستحتاج أيضاً إلى تقديم مساعدات إسكانية ومالية للسوريين الذين قد يصبحون هم أنفسهم نازحين بعد استعادة العائدين ممتلكاتهم، وحل التوترات التي من المتوقع أن تنتج من ذلك.
ولكن لا يمكن للحكومة، ولا يجوز لها، أن تتولى بذل هذا الجهد الضخم بمفردها. وبمجرد تحسن الظروف في سورية، ستكون المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في وضع أفضل لتسهيل عودة اللاجئين الطوعية، ولكن يتعين عليها أن تبدأ بتوسيع نطاق مراقبة نوايا اللاجئين وتوثيق تدفقات العائدين وضمان حصولهم على الخدمات في المناطق التي يعودون لها. ويمكن للمفوضية أن تدعم جهود الحكومة المؤقتة وترشدها في صياغة القوانين الوطنية وتعديلها بما يتماشى مع الحماية القانونية الدولية للنازحين. إلى جانب ذلك، يمكن للمفوضية دعم الحكومة في جهودها الرامية إلى تحسين إصدار الوثائق المدنية للسوريين النازحين داخل سورية وخارجها، مثلما فعلت خلال أزمة اللاجئين في كل من العراق وأفغانستان.
خدمات إعادة بناء الوطن
سيعتمد نجاح إدارة عملية إعادة النازحين إلى الوطن على تحقيق الحكومة الانتقالية السورية لمستوى أساسي من الاستقرار وبناء قدرة محلية لمعالجة التحديات الإنسانية المتعددة القائمة بالفعل. ويظل خطر تجدد النزاع مرتفعاً، كما أن النزوح الداخلي مستمر منذ سقوط الأسد، بسبب الاشتباكات المستمرة بين الجماعات الموالية لتركيا و"قوات سورية الديمقراطية" ذات الغالبية الكردية والمدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرقي سورية. وقد يؤدي الانسحاب الأميركي المحتمل من سورية إلى تفاقم هذه التحديات. علاوة على ذلك، فإن تجميد إدارة ترامب للمساعدات الخارجية الأميركية وتقليص دور "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID) يهددان برامج المساعدات الإنسانية والتنموية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك تمويل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، في وقت ما يزال ملايين السوريين يعتمدون على المساعدات الإنسانية. وإن الحفاظ على الاستجابة الإنسانية في سورية وتعزيزها، جزئياً من خلال توسيع دور منظمات المجتمع المدني التي تقود هذه الجهود حالياً، أمر بالغ الأهمية لتحسين الظروف على الأرض وتحقيق عودة واسعة النطاق للسوريين في نهاية المطاف.
وتعلم العاملون في المجال الإنساني من الصراع السوري أن الحفاظ على إمكان الوصول إلى جميع أنحاء سورية خلال أوقات الأزمات يتطلب الإبقاء على طرق مفتوحة مع البلدان المجاورة. فإذا استؤنف النزاع، يبقى بإمكان وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الوصول إلى المحتاجين عبر الحدود. وأثبت نهج "سورية بأكملها" الذي أنشأه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أنه النموذج الأكثر فاعلية في إيصال المساعدات إلى سورية. وفي الواقع، ينبغي الحفاظ على هذا النموذج الذي يعتمد على شبكة من مكاتب الأمم المتحدة في الأردن وتركيا المجاورتين لتنسيق عمليات الإغاثة عبر الحدود ومراقبة الأوضاع من داخل سورية وخارجها. أما مراكز الأمم المتحدة الرئيسة في عمان بالأردن وغازي عنتاب بتركيا التي تمتلك البنية التحتية المناسبة والقدرة اللازمة لتسهيل العمليات عبر الحدود على نطاق واسع، فيجب أن تظل مفتوحة وأن تستمر في إيصال المساعدات إلى سورية وتنفيذ مهمات المراقبة، بخاصة في المناطق حيث تشتد الحاجة إلى المساعدات الإنسانية وحيث من المرجح أن يستقر عدد كبير من العائدين، لدعم جهود إعادة الاندماج.
ويتعين على المنظمات غير الحكومية التي يقودها السوريون أن تتولى دوراً موسعاً في تلبية الحاجات الإنسانية الفورية وجهود التعافي الطويلة الأمد. فقد شكلت هذه المنظمات العمود الفقري للاستجابة الإنسانية في البلاد طوال أعوام الحرب. فهي تمتلك معرفة محلية عميقة وشبكات قائمة تسمح بتسهيل جهود الإغاثة الفورية وإعادة الاندماج وإعادة الإعمار، كما أن لديها مرونة تشغيلية تسمح لها بالعمل بفاعلية في المناطق التي تعاني غياب مؤسسات الدولة. وتعمل منظمات المجتمع المدني أيضاً بصفتها جهات فاعلة محايدة قادرة على بناء جسور بين السوريين والسلطات الانتقالية، لا سيما في المجتمعات التي تشعر بالقلق تجاه الحكومة أو تلك المعرضة للتوترات الطائفية. ومن المرجح أن تحظى هذه المنظمات بثقة وقبول أكبر في المجتمعات المحلية، مما يقلل من احتمال نشوب صراعات محلية بسبب انعدام الثقة أو سوء الفهم. ولتعزيز تأثير المنظمات غير الحكومية وضمان فاعليتها، يتعين على الحكومة المؤقتة وضع إرشادات قانونية وسياسات واضحة توجه أنشطة تلك المنظمات نحو سد الفجوات الأساسية في الخدمات، مع ضمان خضوعها للمساءلة والشفافية. فخلال الحرب، اضطلعت المنظمات غير الحكومية بدور القيادة الفعلية للقطاع العام في ظل غياب الدولة. لكن مع نضوج الحكومة الجديدة (مع اكتساب الحكومة الجديدة مزيداً من الخبرة والاستقرار)، ينبغي لهذه المنظمات أن تنقل إلى الدولة مسؤولية إدارة القطاع العام المعاد تنشيطه، مع الاستمرار في تقديم الدعم والخدمات لمجتمعاتها. ويمكن للجان المشتركة التي تضم السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص ضمان أن تكون جهود التعافي شاملة ومتماشية مع الحاجات الخاصة بكل مجتمع محلي.
ينظر المجتمع الدولي إلى منظمات المجتمع المدني السورية بصورة أكثر إيجابية من الحكومة المؤقتة التي صُنف قادتها على أنهم إرهابيون من البلدان حتى وقت قريب. ورغم أن الترخيص العام رقم 24 الصادر عن وزارة الخزانة الأميركية الذي يجيز مجموعة متنوعة من المعاملات في سورية لتسهيل تدفق المساعدات والخدمات الإنسانية، يوفر بعض الاستثناءات من العقوبات المفروضة على الدولة السورية، فإن المنظمات غير الحكومية تظل قناة موثوقة يمكن للمانحين الدوليين استخدامها لمواصلة تمويل الاستجابة الإنسانية في سورية بينما تظل العقوبات الأوسع سارية. ولكن ينبغي للعالم ألا يرى في المنظمات غير الحكومية بديلاً دائماً عن دور الحكومة، بغض النظر عن الخلافات الأيديولوجية مع "هيئة تحرير الشام" والفصائل المسلحة الأخرى. ولكي تمضي جهود التعافي قدماً بصورة مستدامة، يجب أن ينظر إلى الحكومة على أنها شرعية وقادرة على إدارة عملية إعادة الإعمار.
نقطة العودة
إن الفشل في تنسيق عودة اللاجئين السوريين ستكون له عواقب وخيمة على سورية والدول المستضيفة المجاورة واللاجئين السوريين أنفسهم. فاستقرار سورية يعتمد على التعافي الوطني المستدام، ومن الممكن أن يؤدي تدفق العائدين إلى إرهاق الحكومة الناشئة، مما يقوض استقرار الدولة الهش. وقد تعاني الدول المستضيفة أيضاً إذا أثارت عودة اللاجئين بطريقة فوضوية أزمة أخرى في سورية، مما قد يدفع آلاف اللاجئين الجدد إلى حدود تلك الدول سعياً إلى الدخول. وبالنسبة إلى اللاجئين السوريين، فإن العودة غير المنسقة أو المبكرة قد تعني الوقوع مجدداً في براثن الفقر المدقع ومواجهة خطر النزوح مرة أخرى، أو حتى الموت، رغم أن الأوضاع بدت في طريقها إلى التحسن.
وعلى النقيض من ذلك، فإن عملية العودة وإعادة الاندماج المنظمة من شأنها أن تسمح لسورية بتحقيق استقرار اقتصادي وسياسي دائم من دون تحميل مؤسسات الدولة أو المجتمع المدني السوري أو وكالات الإغاثة أعباء إضافية. وغالباً ما تكون عمليات العودة فوضوية، ولكن كما تبين من النجاحات في العراق وأفغانستان، فإن تنسيق العودة للوطن يمكن أن يعزز حماية المجتمعات النازحة ويقلل من احتمالات نزوحها مجدداً بعد العودة. وأنشأ الاتفاق الثلاثي للعام 2003 بين حكومتي أفغانستان وباكستان ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إطاراً طويل الأمد لحماية حقوق اللاجئين العائدين ومراقبة عودتهم الطوعية وتسهيلها. وفي العراق، ساعد التعاون الحكومي المستمر مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في توفير الحماية والدعم لملايين العراقيين النازحين داخلياً وخارجياً الذين عادوا لديارهم في وقت لاحق وسط النزاع الداخلي. والدرس الذي يجب أن تتعلمه سورية هو أن إشراك البلدان التي ينتمي إليها اللاجئون وتلك التي تستضيفهم مع مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في جهود التعافي لن يزيل بصورة كاملة الأخطار والأعباء المترتبة على إعادة اللاجئين إلى وطنهم، لكنه الطريقة الأكثر فاعلية لإدارة التعقيدات المتعددة التي من الممكن أن تنشأ.اضافة اعلان
إن مستقبل سورية يتوقف على العودة الآمنة والكريمة للاجئين الذين سيساعدون في إعادة بناء أمة أنهكتها أعوام من الصراع. ويتعين على السوريين، بالتعاون مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، اغتنام هذه اللحظة لوضع أسس السلام الدائم. وإذا لم يفعلوا ذلك، فإن سورية تخاطر بالانزلاق إلى حال أعمق من عدم الاستقرار، مما يترك ملايين العائدين عالقين في بلد غير قادر على إعالتهم. إن نافذة الفرصة تضيق، وثمن التقاعس عن العمل سيلاحق السوريين لأجيال مقبلة.
*جيسي ماركس: كبير المدافعين عن الشرق الأوسط في منظمة اللاجئين الدولية. حازم ريحاوي: كبير المسؤولين عن حملات الدعم والاتصالات في "الخوذ البيضاء" (الدفاع المدني السوري). مترجم عن "فورين أفيرز" حيث نُشر في 11 شباط (فبراير)، 2025.
0 تعليق