لم تعد قضية المرأة مجرد نقاش نظري في أروقة الفكر أو ساحة صراع بين التقليديين والحداثيين، بل تحولت إلى معضلة تلامس جوهر العدالة الاجتماعية في عالم يعيد تشكيل أولوياته وفق ثلاثة متطلبات وهي: السوق، والسلطة، والتكنولوجيا، في الوقت الذي كان ينتظر العالم من موجات التقدم المزيد من تمكين المرأة، فإن الواقع يكشف عن مفارقة عجيبة من علوق المرأة في شبكة معقدة من المسؤوليات والضغوط، حيث أدى التقدم الحضاري إلى تحميل المرأة المزيد من المسؤوليات، في الوقت الذي بقيت فيه مساحة الحقوق والحريات كما هي عليه في الماضي، فهل نحن بحاجة إلى موازنة اجتماعية جديدة تساوي بين الحقوق والواجبات التي فرضتها الحضارة اليوم على المرأة؟ وهل من العدالة أن نتفق على زيادة أدوار المرأة في المجتمع، ونختلف على زيادة مساحة الحقوق، والحريات، وحمايتها من التبعيات والمسؤوليات الجديدة التي تحملتها في ظل متغيرات العصر؟!اضافة اعلان
أليس من العدالة أن تكون هناك نسبة وتناسب بين المسؤوليات والحقوق ؟ فكلما زادت المسؤوليات أليس من المنطق أن تزيد الحقوق والحريات، وحمايتها من الاستغلال الذي يمكن أن تتعرض له المرأة ؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تضعنا أمام مسؤولياتنا اليوم لإعادة النظر في تحقيق التوازن، والمطالبة بإصلاح جذري في البنية القانونية والثقافية، فلا يمكن أن يُطلب من المرأة أن تؤدي أدوارا متناقضة دون أن يعاد تشكيل البنية الاجتماعية والقانونية لاستيعاب هذا التحول.
فاختلال الموازنة الاجتماعية الذي أدى إلى تضاعف الضغوط على المرأة، حيث لم يواكب التغيير في أدوارها أي تعديل جوهري في منظومة الدعم المؤسسي أو التشريعي، ففي مجتمعاتنا ما تزال المرأة مطالبة بأن تتحمل عبء المنزل بالكامل، حتى وإن كانت تعمل لساعات طويلة خارج البيت، وكأن التقدم لم يكن سوى عبء إضافي على كاهلها، بدلا من أن يكون وسيلة لتمكينها وحماية حقوقها.
فإلى جانب المطالبة بتصحيح القوانين بما يتناسب مع أدوار المرأة الجديدة، لا بد من تبني مفهوم « فقه الموازنة» وهو ليس مجرد إعادة توزيع المسؤوليات، بل إعادة تشكيل وصياغة لفلسفة الحقوق ذاتها، بحيث لا يتم التعامل مع المرأة ككيان مطالب بالعطاء دائماً دون أن تمنح المقابل العادل.
لا يمكن أن ننكر أن المرأة اليوم قطعت أشواطا لا بأس بها في مسيرتها الاقتصادية والاجتماعية بفضل التقدم التكنولوجي، ولكنه في الوقت نفسه فرضت أشكالا جديدة من العبودية المقنعة، حيث أن الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي وسوق العمل المتوحش، قد فرضوا أنماطا من التفكير والسلوك تتماشي مع رأس المال أكثر من توافقها مع طبيعتها الإنسانية، التحدي هنا يتجاوز الحديث عن الحقوق القانونية فحسب، بل السؤال الوجودي الأعمق: كيف يمكن للمرأة أن تحقق ذاتها، من غير أن تخضع لتشكيل جديد وفق معايير ومقاييس الاقتصاد والسلطة، لكي لا تصبح المرأة مجرد ترس في آلة الإنتاج، قيمتها مرهونة بإنتاجيتها المادية لا بعمقها الإنساني.
إن حقوق المرأة اليوم يجب أن تطرح في إطار يعترف بخصوصية التجربة الإنسانية للمرأة، دون أن يفرض عليها أنموذجا جاهزا للتحرر أو التبعية، بل المطلوب تشكيل الحقوق وفق رؤية تجمع بين الحريات والمسؤوليات، بين التمكين والحفاظ على الثوابت والهوية، بين الانفتاح والاحتفاظ بجوهر الأنوثة، كقوة ناعمة تساهم في إعادة تشكيل الحضارة نفسها.
في النهاية لا تكمن قضية حقوق المرأة في معركتها مع الرجل، ولا في الصراع ضد البنى التقليدية، بل في البحث عن صيغة تضمن لها الحماية والعيش بكرامة، وفق معايير تنبثق من ذاتها، لا من إملاءات العصر، أو ردود الفعل على بعض العادات والتقاليد، بل المطلوب أن نوازن بين الفروق البيولوجية والنفسية، وبين تحقيق العدالة في الفرص والحقوق، بأن تمتلك القدرة على أن تكوّن ذاتها بكل ما تحمله من تفرد وإنسانية، حتى لا تسحق تحت وطأة الضغوط المتزايدة التي يفرضها العصر.
0 تعليق