لست من هواة البرامج التلفازية الرمضانية، لا لسبب ولكن كثرة البرامج تجعل من الصعب جداً أن يُخصص لها الإنسان وقتاً في أكثر الأشهر ازدحاماً في العام، ولكن ومن حسن حظي إن صح التعبير، فقد لفت نظري في أحد الأيام برنامج عمر فاروق الذي يُعرض على قناة البحرين، والذي يحمل اسم «أول مرة أشوف»، كانت الحلقة بعنوان الحفظة الخارقون، حلقة تم تسليط الضوء فيها على معالم تلك الدولة المتوارية في أقاصي أفريقيا، إنها موريتانيا، الدولة التي يُشاع أن بها أكثر من مليون شاعر، وأغلب سكانها من حفظة القرآن الكريم.في البرنامج تم زيارة عدد من المناطق التي يتم فيها تحفيظ القرآن الكريم، والتي تسمى (المحاضر) حيث يتم تحفيظ القرآن الكريم بشكل مستمر على مدى العام، منطقة بلا كهرباء ولا بنية تحتية، منازل قديمة من طين وألواح خشبية خطت فيها آيات قرآنية وصوت يعلو في السماء مع صوت الأذان الأول إنه صوت قراءة القرآن، لقطات لم تتجاوز مدتها الدقائق سرعان ما انتهت، لكنها بقيت هنا عالقة في عقلي، أطفال وشباب وكبار رجال ونساء كرسوا حياتهم لحفظ القرآن وتحفيظه، في مكان لا يشبه أي شيء سوى أنه أرض الله الواسعة التي لا نعلم عنها شيئاً سوى اسمها وموقعها على الخريطة.البرنامج لم ينقل صورة البلاد، بل نقل معها أفكاراً وتساؤلات كثيرة، كيف ونحن نعيش كلنا على كوكب واحد يكون هم بعضنا هو ماذا سيقتني من ماركات وملابس فاخرة وأجهزة حديثة وماذا سيتناول مما لذ وطاب على مائدة الإفطار، وأين سيقضي إجازته السنوية ومن سيرافقه من الأصدقاء في إجازته الأسبوعية؟ وفي نفس الوقت وعلى بعد كيلومترات ليس إلا هناك من يعيش في منزل طين ينتظر الأذان الأول ليعلن بدء يومه وإن عليه أن ينهض مسرعاً لأن هناك لوحاً خشبياً في انتظار أن يُقرأ؟ نعيش نعم على نفس الأرض لكننا نعيش يقيناً في أبعاد مختلفة.هناك من يعيش البعد المادي للأرض وهناك من اختار أن يعيشها روحياً لا جسدياً، هناك من اختار أن يمشي طريقه نحو بناء نفسه وهناك من اختار أن يمشي طريقه نحو بناء روحه، لسنا كلنا سواء نحن لا نتشارك في هذه الأرض إلا الأرض، بعضنا وجد راحته في راحة جسده وبعضنا وجد راحته في راحة روحه، ليس هذا على حق وذلك على باطل، بل إننا خلقنا وحياتنا اختيار ونحن فقط من نختار أي الطرق سنمشي، وإلى أين نريد أن نصل.منظر الطفل الصغير، وهو يمسك بين يديه لوحه الخشبي ويقرأه بصوت عالٍ، يجعلنا نقف قليلاً لنسأل «لو أن هذه القرية النائية في أفريقيا عُبد طريقها، وتم ربطها بشبكة مواصلات حديثة ليصبح الوصول إليها سهلاً والخروج منها سهلاً، هل كان سيبقى فيها الناس كما هم؟ لو أن الأقدام الزائرة كثُرت وأصبح الناس من أقصى الأرض وأدناها يقصدونها ليروا مالم يُرى هل ستبقى هذه القرية على حالها؟ سأجيب فأقول «كل الدرر المكنونة بعيدة المنال، يصعب الطريق إليها كي لا تمسها يد، حماها الله فأخفاها على بعد أميال وبطريق طويل غير معبد، وجدران طين ومصباح بدائي، حماها الله بعزل من فيها».الخلاصة: ليس كل التطور ينمي الإنسان، بعض التطور يجعلنا نضيع فلا نعود ندرك شيئاً سوى أننا هنا نعيش يومنا كما هو، هناك في بعد آخر على نفس الأرض بشر آخرون لا نعلم عنهم شيئاً يعيشون تجربة أخرى ليست كما التي نعيشها، ابتعدوا عن كل ما يشتت أذهانهم، ويمنع تفكيرهم ويمتص طاقتهم اختاروا أن يعيشوا الحياة بحثاً عن سلام الروح، لم تكن تجربة عمر فاروق بالتجربة السهلة البسيطة، ولم تكن تلك الحلقة وغيرها من حلقات البرنامج عابرة كانت سلسة حلقات مؤثرة اختبر فيها عمر شيئاً لم يره طوال حياته، وقد يكون لم يسمع به أيضاً، لكنه لم يدرك أننا أيضاً هنا كلنا «أول مرة نشوف».
0 تعليق