تطابقت هواجس هذا الكتاب مع هواجسي، يا لها من صدفة رائعة! فمشروعي الروائي الذي أشتغل على حلقاته هذه الأيام يمسّ بشكل كبير هذه الهواجس، التي أقرؤها الآن في كتاب المغيبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى عام 1948. التفكير الذي يشغلني حول ضعف الأرشيف في حياتنا الثقافية بفلسطين تؤكده مصادر ومرجعيات هذا الكتاب الضروري، فيكفي أن أكتشف أن انشغالي الهستيري بهوية وتفاصيل حياة الصحفية والمفكرة الفلسطينية فكرية صادق سيبقى هو انشغالي، فلا شيء سوى سطور قليلة عن حياة هذه المفكرة الشجاعة التي بكّرت في المجيء إلى زمن الثلاثينيات والأربعينيات في فلسطين لتدعو إلى الانفتاح والعلم، وناقشت قضايا المرأة والحرية في مقالاتها في الصحف الفلسطينية والعربية، مع عديد من شيوخ الأزهر، أشهرهم محمد فريد الشنطي.
وغير فكرية صادق، هناك الكثير من الأسماء النسوية في مجال الصحافة والعمل المجتمعي والنضال السياسي، ممّن تم تغييبهن لأسباب عديدة، من أمثال: مهيبة وناريمان خورشيد، ميليا السكاكيني، أسماء طوبى، سلافة جاد الله، وحيدة الخالدي، زكية شموط، يسرى البربري، حلوة جقمان، سلطانة غطاس، مريم بواري، وغيرهن من نهضويات فلسطين.
الكتاب من إعداد وتأليف منار حسن، وقد كُتب باللغة العبرية وترجمه الكاتب علاء حليحل، وهو صادر عام 2022 في 260 صفحة من القطع الكبير عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
عشية النكبة، كان المجتمع الفلسطيني في خضمّ عملية تمدين، إذ كان ما بين 35 إلى 40 بالمئة من سكان فلسطين يعيشون في المدن. توسعت المناطق الحضرية بصورة كبيرة، وأخذت الروابط الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية الجديدة في النمو والتشكل جنبًا إلى جنب مع نمو ظواهر ثقافية لم تكن معروفة من قبل، وكانت بعض المدن الفلسطينية، كالقدس ويافا وحيفا، الأكثر أهمية في هذا الإطار.
يهتم هذا الكتاب بالمدن الفلسطينية التي سطعت حضاريًا وتم إطفاؤها، وهو ليس أول الكتب التي تتحدث عن دمار المجتمع الفلسطيني وتدميره. إن وظيفة المدينة كمحفّز مولّد للحياة الحضارية لم تُبرَز إلى الآن كما يجب، ومن أسباب ذلك ضياع الأرشيفات المنظمة. تقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في بيانها حول صدور الكتاب، إن غياب الأرشيفات يشكّل جزءًا لا ينفصل عن الخراب الذي لم يكتفِ بمحو المجتمع الفلسطيني فحسب، بل بمحو تاريخه أيضًا.
ينقسم هذا الكتاب إلى أربعة فصول رئيسية، هي: الخطاب الجندري في المدينة الفلسطينية، والنهضة النسائية في الحيز الحضري، والنساء في حَيّزي الترفيه والثقافة، وظواهر من الحيز الاقتصادي.
المتتبع للحياة الحضرية الفلسطينية قبل النكبة يرى بوضوح إشعاع الثقافة ومساحة الحريات الاجتماعية، ويكفي أن نتذكر أحداثًا ثقافية حدثت تختصر لنا كل هذا البهاء والنشاط الثقافي الفكري. ففي 15/10/1938، افتُتح المؤتمر النسائي العربي في القاهرة، وكان وفد فلسطين أكبر الوفود، إذ ضمّ عددًا كبيرًا من النساء العاملات في الحركة، بالإضافة إلى عدد من ممثلات لجان السيدات العربيات المنتشرة في مدن فلسطين. طرح الوفد الفلسطيني مجموعة من القضايا الوطنية التي كانت المحور الذي دارت حوله أبحاث المؤتمر ومناقشاته.
وفي سنة 1944، دعت الاتحادات النسائية العربية إلى عقد مؤتمر عربي نسائي آخر في القاهرة من أجل بحث قضية فلسطين وموقف المرأة العربية من هذه القضية. وقد استمرت أعمال المؤتمر من 12/12 – 16/12/1944. بيّنت السيدة هدى شعراوي في كلمة الافتتاح أن هذا المؤتمر "يُعقد لدراسة قضيتي فلسطين والمرأة، وكلتاهما قضية حقوق مهضومة يجب أن تُرد إلى أصحابها"، وتناولت قضية فلسطين ومراحل تطورها، ونادت بوجوب التضامن العربي تجاه هذه القضية.
الكاتبة في سطور
الدكتورة منار حسن، باحثة متخصصة في علم الاجتماع الحضري، والجندر، والاستعمار، وما بعد الاستعمار، والمجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل.
0 تعليق