خواطر متناثرة وعبء الفتنة الكبرى

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

مساكين نحن، عوام المسلمين، وأنا منهم؛ واقعون ضحية تعامل عاطفي مأزوم مع الفتنة التاريخية الكبرى التي ابتُليت بها الدولة الإسلامية الفتية، وأذنت ببدء أعقد صراع سياسي عرفه المسلمون الأوائل، من أجل تثبيت شرعية الإمامة وتوحيد الأمة تحت راية واحدة.

فقد شاءت الأقدار أن تقع «الفتنة الكبرى»، لتنقسم الصفوف بعد عهد استثنائي من حكم «ما قبل الفتنة»، حين كانت السيوف تُشهر في وجه أعداء الدين، بدلاً من أن تُغرس في صدور المسلمين. واستمرت تراكمات تلك اللحظات الأولى من الفتنة تُلقي بظلالها على كل صعود وهبوط شهدته الدولة الإسلامية، مما أرهق وعي الأمة، وأغرقه في أزماتٍ يُعاد إنتاجها حتى يومنا هذا، تغذيها ذات الأسباب التاريخية المعقدة في تكوينها.

لماذا نحن مساكين؟

نحن مساكين لأننا صدّقنا وجود حقيقة «ذات وجه واحد» لصراع تاريخي عتيق ومثقل بالأحداث الجسام، معتمدين على مرويات ورثنا رؤيتها المشحونة بالانحياز والتحزب لهذا الفريق أو ذاك، متجاهلين أن جميع من خاضوا تلك الصراعات قد جمعهم سبق الإيمان، وأقدمية الصحبة، وروابط القربى.

نحن مساكين لأننا أوهمنا أنفسنا بأن «الحقيقة التاريخية» يجب أن تخضع لأهوائنا، وليس لمعطيات الواقع الذي أنتجها. ويا ويل من يلتزم أمانة النقل والتحليل لإزالة الالتباس والتدليس عند تقديم الحقائق؛ إذ سرعان ما يُتهم بالردة وخيانة الملة؛ لأنه قرر الخروج عن الإجماع الذهني التراثي للجماهير، فيعود أدراجه خوفاً من التهديد والوعيد.

نحن مساكين لأننا أصبحنا فريسة سهلة لتلفيق الحقائق، مع ميلنا للتهرب من مسؤولية اكتشاف «الحقيقة الموضوعية» التي تتطلب فهماً متزناً لمنطق الأحداث التاريخية ووضعها في سياقاتها الزمانية، والدينية، والثقافية، وحتى الشخصية للفاعلين الرئيسيين في ماضي تلك الأحداث، حفاظاً على الحد الأدنى من وحدتنا المعنوية كمجتمعات إسلامية.

الفتنة الكبرى في الدراما التاريخية

ما سبق ليس سوى خواطر متناثرة مما يدور في العقل ويسكن الوجدان عند التأمل في أسباب «الفتنة الكبرى»، التي أيقظتها سردية العمل الدرامي «معاوية، ولست هنا بصدد تقييم هذا الإنتاج الملحمي من ناحية فنية لا أفقهها، وإنما أسعى إلى البحث والتقصي، ليطمئن القلب ويهدأ البال، بأن ما يُسمع ويُرى يتفق مع ما قررته الأقلام الموزونة والمتنزّهة عن الغلو في وصف وقائع التاريخ، خصوصاً بعد أن وُضع هذا العمل في خانة «التحريم»!

ومن بين هذه الأقلام المؤرخ والمفكر الإسلامي التونسي هشام جعيط، صاحب الكتاب الشهير «الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر»، الذي قدّم فيه قراءة تحليلية رصينة لتلك الفترة الحرجة من تاريخنا الإسلامي. وكان من الضروري إعادة قراءته لتفنيد ما جاء في المسلسل، الذي أراه قد حرّك المياه الراكدة، وأيقظ الكثير من التساؤلات المشروعة، وأكسب بعضنا فضيلة التريث قبل إطلاق الأحكام المجحفة بحق من يحاول ترويض «وحش الفتنة».

التحرر من أعباء التاريخ

ولأن «وحش الفتنة» اعتاد أن يلاحقنا، نحن العامة بالذات، ويقطع علينا طريق التساؤلات التي قد تعيد برمجة وعينا لتفكيك أحجيته وتحريره من علّاته، فقد كان لا بد من عمل درامي كهذا ليعيد شيئاً من جرأة البحث عمّا وراء جبل الفتنة.

والطريق لمعرفة ما وراء «الأكمة» طويل وشاق، وهو بحاجة ماسة إلى مراجعات موضوعية تعيد الأمور إلى نصابها الذهني المنصف والمتزن، إذ لا يوجد حتى في العالم المثالي، حق مطلق أو باطل مطلق، إلا في حدود ما شرّع الله.

إذن، ما نحتاج إليه لرفع أعباء «الفتنة الكبرى» هو وعيٌ متحرر من أغلال الماضي، يعيد قراءة التاريخ بوضعه في سياقاته الصحيحة. وعيٌ يخلصنا من أوهام الروايات المتحيزة، ويكف يد من يستغلها لإلقائنا في خنادق السجال والجدال المؤدية لدروب الكراهية والشقاق، بدلاً من التوحد على كلمة سواء.

*عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق