في بلدٍ صغير المساحة، كبير بالقيم والوجدان، لا ينبغي أن تصبح أخبار الحرائق والانهيارات مشاهد مألوفة، ولا أن تتحول أخبار الوفيات إلى أرقام باردة. ثلاث حوادث أليمة وقعت مؤخراً في البحرين، ثلاثة مواقع مختلفة، لكنها تحمل تحذيراً واحداً: الخطر يتكرر، والوقاية غائبة، كل واحدة منها كانت كافية لتوقظ الضمير، لولا أن التكرار أصبح سيد الموقف.
ثلاثة مواقع، ثلاث حوادث، ثلاثة نداءات متتالية، إن تكرار هذه الحوادث ليس قضاءً محتوماً ولا قدراً يُسلّم له، بل عن نمط مقلق وعن ثقافة لم تتشكل بعد حول السلامة. نحن لا نواجه كوارث طبيعية، بل نتائج تقصير يمكن منعه. معظم البيوت تفتقر لأبسط أدوات الوقاية، وكثير من السكان لا يعرفون كيف يتعاملون مع الحريق أو الإخلاء. الأسوأ أن أغلب المباني لم تُصمّم لتكون آمنة في وجه هذه السيناريوهات. والاعتماد على ردّات الفعل بدلاً من المعالجات الجذرية. والنتيجة: لايزال الناس يموتون داخل بيوتهم، وتحترق الأرواح قبل أن يصل الإنذار.
من الضروري أن نشيد بسرعة استجابة الدفاع المدني، وأن نفتح التحقيقات بعد كل حادثة. والمطلوب أيضاً أن نمنع تكرارها. وأن يتحوّل الخوف من الحريق إلى التزام، والنجاة إلى نظام، والتعامل مع السلامة كضرورة لا كخيار. في البحرين، لا يُفترض أن تكون الوقاية ترفاً. المشكلة ليست فقط في مصدر الحريق، بل في استعداد المجتمع بأكمله لمواجهته. هل جميع المباني مزوّدة بأجهزة إنذار وكاشفات دخان؟ هل هناك خطة إخلاء واضحة في كل منزل؟ هل يعرف الأهالي كيفية استخدام طفاية الحريق؟ الأرجح أن الجواب: لا. وهذه الـ«لا» هي ما يقتلنا قبل ألسنة اللهب.
لا يجوز أن تبقى أجهزة كاشف الدخان غائبة، وخطط الإخلاء غامضة، وثقافة التعامل مع الخطر محدودة إلى حدّ أن البعض لا يعرف حتى كيف يستخدم طفاية الحريق. نحن لا نواجه كوارث طبيعية مباغتة، بل أخطاء بشرية متكررة لا تُقابل إلا بالتصريحات بعد فوات الأوان. فبعد كل فاجعة، يُشاد بسرعة الاستجابة، وتُفتح التحقيقات، وتُصدر التعازي، ثم تُطوى الصفحات حتى إشعار آخر. لكن هل يكفي أن نتحرّك فقط حين تشتعل النار؟ وماذا عن البيوت التي ستشتعل غداً؟ وماذا عن الضحية القادمة التي ربما تقرأ الآن هذه السطور؟
الخلل ليس في النار، بل في الإهمال المتراكم. المباني تنهار لأن أحدهم تجاهل فحصاً أو وقّع على تقرير بلا دقة، والأرواح تُزهق لأن لا أحد ألزم بتركيب كاشف دخان أو درّب السكان على مواجهة الحريق. هذه ليست حوادث معزولة، بل مؤشرات مقلقة على غياب منظومة تُلزم بالوقاية وتمنع الكارثة قبل أن تقع. وما لم نواجه هذا الإهمال بمنهج متكامل، سيبقى كل بيت مهدداً، وكل شخص هو الضحية التالية المحتملة.
وبصراحة.. ما نحتاجه ليس شعارات مؤقتة، بل قانون واضح يُحاسب المتهاونين، ويُلزم كل مبنى بأنظمة إنذار فعّالة، ويمنح البلديات صلاحيات رقابية حقيقية لا تعرف المجاملة عندما تتعلّق المسألة بحياة الناس. ونحتاج أيضاً إلى سجل وطني لتقييم سلامة المباني، وفحص دوري يُحدّث معايير البناء، وتدريب مستمر للسكان على كيفية التصرّف وقت الطوارئ. فالدفاع المدني لا يمكنه وحده أن يحمي الجميع، لأن الوقاية مسؤولية دولة بأكملها، تبدأ من القرار، وتستمر بالوعي، وتُترجم إلى واقع ملموس داخل كل بيت.
ورغم صغر مساحة البحرين، فإن ثلاث حوادث كبيرة خلال أسابيع كفيلة بأن تدق ناقوس الخطر. إنها رسالة مؤلمة بأن الوقت حان لاتخاذ القرار الصعب: أن نعتبر السلامة أولوية وطنية تبدأ من التعليم، وتُبث عبر الإعلام، وتُغرس في كل بيت. ففي بلد يسعى لأن يكون مركزاً متقدماً في التنمية، لا يليق أن تحترق فيه البيوت بسبب تقصير يمكن منعه. الأمان لا يتحقق بالندم، بل بالاستباق. وكل حادثة لا تُستثمر في التغيير، هي جرس إنذار صامت قبل الفاجعة التالية.
قبل أن يحترق البيت التالي، فلنتحمل المسؤولية. لا كأفراد فقط، بل كمؤسسات ومجتمع ودولة. لأن الحريق القادم لن ينتظر.
0 تعليق