في ظل التحوّل الرقمي المتسارع، باتت التربية تمرّ بأزمة حقيقية تعصف بالأجيال الناشئة، حيث فرضت التكنولوجيا على أبنائنا أنماطاً ومصطلحات وأفكاراً غريبة، لم تعد معها عملية التربية في متناول الآباء. ولم يعد للمنزل أو الأُسرة التأثير ذاته في توجيه النشء، بل أصبحت الشاشات هي المعلم والموجّه، حيث تفرض السلوكيات، وتصوغ العقول. لنجد أنفسنا أمام أُسر غائبة عن الأبناء، ونجد أبناء غرباء ينطقون بكلمات شاذة عن ثقافتنا، ويتصرّفون بسلوكيات لم نألفها. لم يعد هؤلاء الأبناء ثمرة تربية الأُسرة، بل أصبحوا أبناء الشاشات والتطبيقات والألعاب الإلكترونية، حيث تُغرس فيهم قضايا وأفكار مريبة، وتُشكّل عقولهم برمجيات تعبث بتركيبتهم العقلية والثقافية.
وقد يبدو هذا التحوّل غير ممنهج ظاهرياً، لكنه في الحقيقة يهدّد هويتنا وتراثنا وقيمنا الدينية والاجتماعية. وليس الخطر مقتصراً على تشويه مفهوم الأُسرة، بل يتعدّاه إلى التأثير العميق على النمو العقلي للأطفال. فقد أثبتت الأبحاث أن الإفراط في استخدام الشاشات يؤدي إلى تدهور نمو الدماغ، وضعف النواقل العصبية، وتراجع القدرة على التذكر والتركيز، وانخفاض التحصيل الدراسي بشكل عام. كما أن هذه التقنيات تُقوّض النمو الاجتماعي للأطفال، فالعزلة الناتجة عن الجلوس لساعات طويلة تُقلّل من قدرتهم على تكوين علاقات اجتماعية صحية، وتجعلهم عرضة للمحتوى غير اللائق، والتنمر، والابتزاز الإلكتروني. وتزداد الخطورة حين تُعزّز هذه البيئة السلوك العدواني، وترتفع معها نسب الاكتئاب، والقلق، ونوبات الخوف والهلع، وتظهر عليهم أعراض إدمان حقيقي عند منعهم من استخدام الأجهزة.
ولكن، ورغم هذه الصورة القاتمة، يجب أن نُقرّ بأن التقنية ليست شراً مطلقاً، بل هي نتاج طبيعي للتطور والتقدّم العلمي. ولسنا بصدد الدعوة إلى الانفصال التام عن التكنولوجيا، فهذا غير منطقي في عصر الذكاء الاصطناعي والحوسبة والروبوتات، ولكن الخطر يكمن في أن يكون ارتباط الطفل بها قصرياً وفي اتجاهٍ واحدٍ فقط: الترفيه وإضاعة الوقت.
لذا، تقع على الأسرة مسؤولية عظيمة في تقنين الاستخدام، والتوجيه إلى توظيف الشاشات والأجهزة في مجالات التعلّم، والبحث، والتطوير الشخصي. ينبغي أن يُحدَّد وقت استخدام الشاشات، وتُفعّل برامج الرقابة والمراقبة الأبوية، وأن يُعزّز النشاط الحركي والرياضي والاجتماعي كمشتتات إيجابية تُساهم في التوازن النفسي والسلوكي للطفل.
إن مسؤوليتنا جميعاً هي أن نُعيد للأسرة دورها التربوي، وأن نُعزز العلاقة بين الآباء والأبناء بالحوار والتقارب، ونُحيي اللقاءات الأسرية التي تخلق الدفء والمودة. فليس الهدف الحرمان المطلق، ولا الإفراط المدمر، بل هو الاعتدال والتوجيه الصحيح، بما يخدم مستقبل أطفالنا ويحمي هويتهم النفسية والثقافية.
0 تعليق