لأكثر من مائة عام وفي ذي القعدة منه، هناك بين مكة والطائف يعقد سوق عكاظ أحد أشهر أسواق العرب في الجاهلية، نعم كان تجمعا تجاريا، لكنه أيضا كان سوقا بالمعنى السوسيولوجي، وهو لحظة قارّة في الوعي العربي، فقد اندمج سوق عكاظ في المخيلة العربية لا بسبب من ثراء بضائعه أو تعدد منتجاته، بل لأنه كان مجتمعا ثقافيا يقصده العرب، حيث الفرصة لإعادة تمثل الذات في المكان، إنه المكان الخاص، حيث تنشط غرائز العربي وتستقر فيه مكامن من أصالة هي علاقته بالصحراء لا كونها مكان خلو، بل بيئة اختارت من الكثبان هُوية، حينها لم يكن بعدُ في أقصى رغائبه أن يأتي اليوم ويسكن طاق كسرى، وعندما يشتري ما يكفيه من المؤن والمعروضات لسد حاجته المعيشية، المعيشية بالمعنى الثقافي كذلك، فهو مستقر العادة في صحراء الجزيرة، وكم احتشدت نصوص عربية لتعضد فرضية احتلال هذا السوق وجدان العرب، واختراقه للوعي الجمعي فيهم، ففيه لا تعرض البضائع المادية فقط، بل كان ميدانا لاستهلاك آخر، استهلاك يغذي الوجدان والخاطرة لا فسيولوجيا البدن، حيث الشعر نسقٌ لتثبيت صورة القبيلة، وكأني أنظر زهيرا يقف متوكئا على عصاه بين عرب يتوافدون ينشدهم مدح بني عبد مناف «لَهُم فَضلُ سُوقِ الناسِ حَتّى تُخيرَتْ *** عُكاظُ وَفِيها المَفخَرُ المُتَفاضِلُ»، هناك وضعت «المعلقات» للنابغة وزهير بن أبي سُلمى، وعنترة والأعشى، وكان الأول قبل مسابقات شاعر المليون يجلس حَكما على ما تجود به حُدُوْس شعراء البادية، أما الخطابة، نثرنا الأول، فكانت تمردا على الانسحاق في الجماعة.
عكاظ كانت حكومة ثقافية للعرب يُدوَّنون فيها أنسابهم المضطربة لإعادة الاندماج والإبقاء على السلام الاجتماعي بين الأقارب في الدم والذاكرة، هو السوق الذي وصف الحمَّوي في معجم البلدان طبيعته وحضور العرب فيه: «وكانت العرب تجتمع بعكاظ في كل سنة... فيتناشدون الأشعار، ويتفاخرون بالأحساب، ويتحاكمون في مظالمهم»- ج4، ص140» ويكشف الأصفهاني: «وكان عكاظ من أعظم أسواق العرب، يتوافد إليه الشعراء والخطباء، وكان النابغة الذبياني يُحكَّم فيه بين الشعراء»- الأغاني، ج4،ص193»، إنه السوق الاجتماعي للعرب في جاهليتهم، السوق باعتباره مؤسسة وظيفية حافظت على البناء الثقافي للأمة، هو المكان الذي اشتبكت فيه الديناميات الاجتماعية لصالح بناء الخطاب السياسي والثقافي، وتحققت عبره مسارات آمنة للعلاقات الاجتماعية بين مختلف القبائل والبطون، وفي علم الاجتماع الحديث لا يصبح السوق مكانا طبيعيا بل هو «مؤسسة اجتماعية مخترعة»، وفي راهننا اليوم تم فصلها قسرًا عن العلاقات الاجتماعية (بولاني، 1944).
كان هذا في غابر تاريخ العرب، أما بعد مجيء الإسلام فقد تركب في الأمة معنى اجتماعي جديد، وهو أن توسعت دار العرب لتضع نفسها في قلب المدن الكبرى بفارس والشام وبلاد ما وراء النهر، بل حتى الصين والقسطنطينية لاحقا، وعند ذاك تراجعت أهمية عكاظ، أي انتقل الاقتصاد الثقافي للجماعة العربية من البادية إلى مدن الحضارات الكبرى، التي عندما استقر فيها العرب أنشأوا الأسواق لكنها لم تكن في وظيفة سوقهم الصحراوي، بل كانت للاستهلاك بمعناه المادي، وهو ما غرس في سلوكهم مادية ليست من أصل عالمهم الحسي، وهو ما يسميه ابن خلدون بـ«عوائد الترف» التي جعلها سببا رئيسا في انكماش العصبية، واتحاد عناصر الانهيار في قلب المجتمع.
وكأن صاحب المقدمة يربط عضويا بين الاستهلاك وتفكك عرى الرابطة الاجتماعية. ومن أسف أن النظر إلى السوق تهيمن عليه قراءات سطحية عن «حجم السوق، وتحليل الأداء والمؤشرات...إلخ»، وكل هذه العناصر المستخدمة لفهم السوق والحركة الاقتصادية في المدن، تظل أدوات مُصْمَتَة تعاني انحسار بلاغة التحليل، فما نريده في هذه المقالة هو الكشف عن معنى «السوق» و«الاستهلاك»، بحثا في أسباب غياب هذه «العُكَاظية» في الوعي العربي، فالحقيقة أن التراجع الكبير في فهم العمليات الاجتماعية المرتبطة بالأنشطة الاقتصادية والتجارية هو المسؤول عن مفازع هذه التقارير التي تعج بها الدوريات والكتب التي تتحدث عن مشكلات المجتمع العربي، مشكلاته النفسية والاجتماعية، وبسبب غفلة هذه الأدوات أو تناهيها في التواضع البحثي عن الأبعاد الاجتماعية لهذا النشاط، ولعلها غفلة مقننة، أي محروسة بالأكاديميا الكلاسيكية فلم يجر بعد فهم البعد الرمزي للفاعليات الاجتماعية في سياقاتها المتعددة، والسوق أكثرها غنىً في الدلالات والرموز ، بل هو البعد الأكثر تأثيرا في البنية الشاملة للمجتمع. فلو نظرنا إلى التطور الاقتصادي الذي لحق بعدد من مجتمعاتنا العربية وما صنعه من قواعد للـ«الرفاه» وهو ما يعني قدرة الفرد على الاختيار بين المنتجات المختلفة، فإن التحليل هنا يذهب بنا إلى بيان الصلة المعكوسة بين الماضي والحاضر، فالفردية التي كانت سابقا انخِراما من الجماعة، هي اليوم فردية مُشرْعَنَة بِالتَّوَقِ المُكَثَّفِ لإرضاء الغريزة لا تقييد حِسِيتها، حيث تسللت إلى بنى الوعي فينا لتنزع إلى ربط الامتلاك بإثبات الذات، وقد نفهم هذا الأمر في المجتمعات الغربية التي جرت فيها تطورات واسعة في الاتجاهات الفكرية والعلمية وما ترافق معه من تصاعد إنتاجي واسع برر ما تسميه عالمة الاقتصاد السلوكي لوسيا رايش، وذلك في كتابها (طبيعة وثقافة الاستهلاك في المجتمعات الاستهلاكية، 2008م) بأنه وراء الزيادة الحادة في القدرة الشرائية للمستهلكين تبعا للتحول العلمي الكبير ومنتجاته من الابتكارات التكنولوجية، وكيف صنع كل هذا التغييرات الاجتماعية والثقافية المتحكمة في الدوافع الفردية والاجتماعية للمستهلكين، حتى انتهت المجتمعات الغربية تدريجيا إلى اصطناع مستهلكين تبنوا أنماطا حياتية مرتبطة بالاستحواذ المادي، فضلا عن سلوكيات الاستهلاك السريعة أو قصيرة الأجل.
وخلص تحليل لوسيا في فحص الاجتماعي والنفسي في مجتمع المستهلكين الغربيين إلى أن ممارسة التسوق اكتسبت وظائف نفسية واجتماعية عند أعضاء مجتمع المستهلكين، حتى أصبحت هواية مفضلة، ونزهة مثيرة ومحفزة للعائلة بأكملها ما يصل إلى الهوس بمراكز التسوق، ومصدرًا للهوية الذاتية، هو استهلاكٌ صارت له وظائف علاجية (Reisch (2001: 45.
هذا هناك، حيث تجري التحولات كنتائج طبيعية للتطور في البنية العلمية وما تنتجه، وفي العقل الثقافي المرتبط بهذه التحولات، فذاك مجتمع منتج، ويستهلك ما ينتجه، واقتصاده الاجتماعي ترجمة صريحة العبارة لتطور أصيل فيه، أما نحن فأمة غير منتجة أو على الأقل لا يتوافق استهلاكنا مع حصادنا التنموي، وتوجد فجوة كبيرة ومقلقة بين الإنتاج والاستهلاك كما تشير التقارير، فلماذا لم يقم فينا اعتضال يفسر طبائع وعينا الاستهلاكي؟!
إنها غربة العربي عن معنى السوق؛ سوقه الاجتماعي، وانقطاع صلته بحقائق وجوده، وكذلك انخراطه في نموذج غربي يتتبع خطاه ليس فقط في المعرفة المجردة وهذا حقه الطبيعي، لكن في أنماط عيشه، وأثر ذلك بادٍ في طبائع الاستهلاك التي يعيشها الفرد العربي، فهو ولكونه غريبا عن هذه الأنماط من المعيشة، وإن كان يتبناها فيؤذي نفسه بصورة غير واعية، كيف؟ إن الفرد في مجتمعاتنا فاقد للسيطرة تحت عنف السوق وهو ما أدى إلى ترسخ طبائع استهلاكية مادية بالدرجة الأولى، وهذا هو السبب في اختلال توازنه وجعله يشتري ما لا يحتاجه، وكان لينجو حال أحكم قبضته على وعيه الشرائي، ومن حصائده حينها إنضاج قدراته الادخارية، وتوسعٌ في دائرة اقتصاده الثقافي، بمعنى أنه سينتقل من مجرد مستهلك إلى فرد قادر على تنظيم احتياجاته وتحديدها بصورة تلائم حالته المادية، وفي الحقيقة ليس بمقدورنا أن نعرض لجملة المشكلات الاجتماعية التي تتعلق بنمط الاستهلاك، فكثير من علماء النفس يشيرون إلى أن شهوة التسوق ترتبط بمشكلات تعود إلى فقدان الفرد تحديد أولوياته أو ما يسمى بـ«اضطراب الشراء القهري» أو «إدمان التسوق» وهو الشعور برغبة في الشراء لا يمكن السيطرة عليها، وهي رغبة لا تسندها حاجة حقيقية، والحال، فإن الكثير من الإجابات عن مشكلات الفقر والبطالة وغياب التنمية تعود إلى مظاهر هذه الأنماط السلوكية القارّة في الوعي العربي.
إن المسألة التي نشير إلى طغيانها في الوعي الاستهلاكي ننظر لها عبر العدسة الاجتماعية فنشاهد حالات الاضطراب الداخلي التي يعيشها الفرد العربي، بين ما يريده حقا وما يعتقد فيه وجوب امتلاكه، فهو وإن كان يعيش في دولة رفاه فلا يعني ذلك أنه قادر على تجاوز تعاظم هذه الشهوة وقمعها، فنراه رغم كل ما توفره له دولة الرعاية غير راضٍ بما يملكه، متخمٌ بحالات من الخيبة كونه غير قادر على الوصول إلى المناطق الأعلى في الاستهلاك المادي بسبب تسارع وتيرة الاستقطاب عبر الإعلانات التي تهيمن على فضاء وعيه، ليفقد اتزانه وتتعطل فيه القدرة على الاختيار. إذن اقتصاد الرعاية لم ولن يستطيع توفير حالات الرضا لوجدان ممزق ومتهاوٍ، ولعقل مسجون في الماديات، موهنٌ الوعي معطل القدرات تالف الإبداع، وهنا فالذي يجب أن نعيه تماما أن المجتمعات إذا أرادت الحفاظ على تماسكها وحماية روابطها، فإنه من المهم تغيير المعادلة لصالح زيادة الوعي بالضروريات وتقليل الهوس بالاستهلاك، نفعل ذلك لصالح الفرد أولا، ثم لحماية مجتمعاتنا من التفكك، وكم كان شيخنا ابن خلدون بصيرا بنا أكثر حين قال: «كثرة الترف تؤدي إلى فساد العمران..».
غسان علي عثمان كاتب سوداني
0 تعليق