القراءة ولحظة بناء الوعي بمصير الأمة ومآلاتها

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تخيفني كثيرا فكرة إطفاء الأضواء في البيوت والمباني والمعالم وفي كل مكان اعتدت أن أراه مضيئا.. تحيلني رمزية الانطفاء تلك مباشرة إلى فكرة التلاشي والموت والعدم. لكنّ الرمزية تختلف بالنسبة لي في انطفاء أضواء معارض الكتب؛ حيث تبدو الرمزية مقلوبة تماما؛ فهذا الانطفاء يعني لي المزيد من الأنوار التي تنتقل من المعرض، أي معرض كتاب كان، لتضيء في أماكن أخرى كثيرة.. وكأن الكتب التي خرجت لتوها من المعرض كانت عبارة عن سُرج يستطيع كل واحد منها أن ينير حارة بأكملها وليس بيتا واحدا فقط.

وعلى مدى أكثر من سبعة عشر عاما -كنت أُغطي فيها معرض مسقط الدولي للكتاب الذي أطفأت أنواره مساء أمس وأغلق الباب وراء آخر زائر كان يبحث عن «سراج» ينير طريق عودته- كنت مشدودا جدا إلى رمزية كتلة الضوء الضخمة التي تتشظى من داخل المعرض وتتوزع في ربوع عُمان كلها؛ فيتحول الضوء الواحد إلى عشرات الآلاف من الأضواء القادرة على التكاثر.

لكنّ هذه الصورة التي تبدو حالمة جدا، تلح دائما بسؤال عميق عن اليوم التالي لانتهاء المعرض، وعمّا تفعله القراءة بنا، في عُمان وفي الأمة العربية التي تقول المؤشرات إن حصة القراءة اليومية في حياتنا قصيرة جدا مقارنة ببقية الأمم والشعوب، حيث يقول مؤشر القراءة إن العرب لا يقرؤون أكثر من 10 دقائق في اليوم مقابل 55 دقيقة في أوروبا، فنطرح الكثير من الأسئلة، كيف تغيّرنا القراءة؟ ولماذا تنطفئ بنا الحياة حين نخسر عادتها؟ وكيف يمكن لأمة أن تكتب مستقبلها إذا لم تُحسن قراءة ماضيها وحاضرها؟

من يزور معارض الكتب يخرج بيقين أن الناس تقتني الكتاب، وهذا الأمر يبدو متناميا عاما بعد آخر سواء عبر المشاهدة العينية المباشرة أو عبر التفكر في سر صمود دُور النشر لو كانت المبيعات تتراجع في ظل صعود تكلفة الورق وتكلفة النشر نفسه!! لكن السؤال الأهم هو ما بعد اقتناء الكتاب، هل هو لمجرد بناء المكتبات الشخصية أم فهم حقيقي لأهمية القراءة ودورها؟ يتصور البعض، مخطئا، أن القراءة هواية نخبوية، ويهملون حقيقة كونها أداة أساسية لبناء الوعي وصياغة الإدراك، وتوسيع أفق الإنسان لفهم ذاته أولا ثم بعد ذلك فهم العالم. وفعل القراءة المستمرة هو إحدى أهم الوسائل التي يمكن أن تنقذ هذا العالم من الابتذال والسطحية ومحاولة ترتيب الفوضى التي تنشأ داخل النفس الإنسانية ثم تنتقل بعد ذلك إلى الفوضى داخل المجتمعات والدول.

تستطيع القراءة الجادة فعل كل ذلك، كما أنها تستطيع انتشال الكثير من المجتمعات العربية من أخطار ثقافة التلقي السريع البعيد عن العمق الذي رسّخته وسائل التواصل الاجتماعي وطبيعة الحياة السريعة، ولم يسلم منه الكثير من «المثقفين» العرب الذين اختاروا السير مع أصوات العامة وليس العمل من أجل بناء وعي مختلف لمستقبل مختلف.

الحالة الوجدانية التي شكّلها معرض الكتاب مهمة جدا ويمكن البناء عليها في ترسيخ العلاقة بين كل الأجيال -وليس فقط الجيل الجديد- بالكتاب، وبالمعرفة وبالحوار المتزن المبني على أسس وقواعد صحيحة. وكم يبدو العالم العربي في أمسّ الحاجة إلى بناء تصور يؤكد أن فعل القراءة فعل جماعي وليس نخبويا فقط إن قام به البعض سقط عن البعض الآخر، وأيضا أن القراءة لا تعني فقط قراءة الروايات وكتب الفقه على أهميتها، ولكنّا في حاجة ماسة إلى قراءة كل المعارف، قراءة الفقه وعلوم الدين وقراءة التاريخ والسياسة والاقتصاد وقراءة الأدب وكل العلوم الإنسانية والعلمية. ولا يمكن لمجتمع أن يسير باتزان إلا إن كان قادرا على القراءة في كل هذه العلوم والمعارف حتى يستطيع أن يكتسب مناعة فكرية، ومناعة ضد الهيمنة والاستلاب، وضد كل أنواع التضليل ومحاولة الجر نحو سرديات نمطية في الحياة.

وهنا يبرز دور المدارس باعتبارها منابر تنوير منذ العتبات الأولى لتشكيل وبناء شخصية الأطفال، وكما تدرس المدارس النصوص فإنها مطالبة أيضا ببناء وعي داخل الطفل يوصله إلى الإيمان العميق أن القراءة اليومية مهمة في حياته مثلها مثل الأكل والشرب والطقوس الدينية، وأن وعي الطالب/ الإنسان لا يكتمل دون هذه القراءة.

وإذا كانت هناك قراءة عميقة على مر العقود الماضية تبحث في آليات قفز هذه الأمة فوق جدران حالة الانسداد الحضاري التي تعيشها منذ عدة قرون فإن القراءة والمعرفة أحد أهم تلك الآليات التي نملك فعلها اليوم أكثر من أي وقت مضى.. رغم التحديات المتمثلة أولا في التسطيح وفي الملهيات الإلكترونية الجديدة. لكن الحقيقة التي علينا أن نعيها تماما والتي يعرفها الجميع ويرددونها أن الأمة لن تنهض من أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل أن تنشئ جيلا قارئا، وواعيا، يملك قدرة على الفهم لا على الحفظ فقط، وعلى التحليل لا على التكرار، وعلى النقد لا على التلقين.

الحالة التي يخلقها معرض الكتاب في كل البلاد العربية فرصة رمزية، وتجربة اجتماعية، وشحنة أمل يجب أن تتوسع وأن ننطلق منها نحو الهدف الذي نريده.. يجب ألا تنطفئ أنوار المعرض بانتهائه، بل أن تمتد أنواره إلى المدارس، والمجالس، والمنازل، والمقاهي، وحتى إلى وسائل التواصل الاجتماعي نفسها. لا نملك ترف الزمن لنؤجل فعل القراءة، لأننا حين نؤجل الوعي فإننا نُراكم الجهل. وحين نُطفئ شموع المعرفة، فإننا نترك الفرصة لفلول الظلام.. فلنقرأ؛ لأن القراءة لا تغير مصير الفرد فقط، بل تعيدُ صياغة مصير الأمة كلها.

عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق