تكاد لا تخلو رؤية وطنية مستقبلية في دول الخليج العربي من إشارة أو مرتكز يعنى بتعزيز الهُوية الوطنية؛ فالرؤية السعودية (2030) تتضمن محورًا أساسيًا وهو «مجتمع حيوي.. قيمهُ راسخة»، وفي مضامينه تركيز على الاعتزاز بالهُوية الوطنية وتسويقها وإبرازها، ورؤية قطر (2030) تركز في غاية «الرعاية والحماية الاجتماعية» على «المحافظة على التراث الثقافي الوطني وتعزيز القيم والهُوية العربية والإسلامية»، أما «رؤية عُمان 2040»، فقد أفردت ضمن أهدافها الاستراتيجية الوصول إلى «مجتمع معتز بهُويته ومواطنته وثقافته، يعمل على المحافظة على تراثه، وتوثيقه، ونشره عالميًا». وفي تحليلٍ وثائقي أجريناه مسبقًا على خمس وثائق لرؤى الدول الخليجية وجدنا ما يزيد عن (100) تكرار لمفردة (الهوية/ هوية) ومرادفاتها أو ما يشير أو يتصل بها في سياق هذه الوثائق المركزة؛ وهو ما يعني أن هاجس الهُوية الوطنية وتعزيزها، وإيجاد الآليات الممكنة لترسيخها يعد هاجسًا رئيسًا بالنسبة لصانع الرؤية الخليجية، ولا يقل أهمية عن هواجس أخرى مماثلة كتنويع الاقتصادات، والتخارج من إيرادات النفط والغاز، وتجويد منظومات التعليم، والتركيز على الحضور السياسي والثقافي دوليًا وإقليميًا.
وهناك عدة مسوغات تجعل من تعزيز الهُوية الوطنية هاجسًا خليجيًا مشتركًا، أهمها: حداثة بنى الدولة في الخليج، وسرعة الانفتاح الثقافي والاقتصادي على الآخر، وتصاعد دور الدولة كفاعل تنموي في مقابل المؤسسات الاجتماعية الأخرى، وزيادة الهجرات الوافدة إلى هذه الدول في آجال زمنية قصيرة، واندماج خليط واسع من الثقافات والجنسيات الأخرى في نسيج هذه المجتمعات وفي اقتصاداتها، عوضًا عن هواجس التركيبة السكانية، وتطورات أسواق العمل وقدرتها على استيعاب أعداد واسعة من أشكال الأيدي العاملة، وبيئات الاستثمار التي مكنت من هجرة رؤوس الأموال والمنتجات والخدمات بأطياف وأشكال واسعة إلى هذه المجتمعات، وتوجه هذه الدول لبناء قوى دبلوماسية مؤثرة في سياقها الإقليمي والعالمي. كل هذه العوامل أعادت (تراكميًا) سؤال الهوية إلى الواجهة لدى صانع الرؤية الخليجية في ظل مجموعة من عناصر الخطر التي تحدق بهذه الهوية في واقعها اليومية، وفي حركتها الاجتماعية.
ومن أبرز تلك العناصر هو النمو المطرد للأيدي العاملة الوافدة في بنى الاقتصادات الخليجية، رغم خطط التوطين واستراتيجياته التي تتشارك فيها دول الخليج عبر العقود الماضية؛ تشير إحصائيات المركز الإحصائي الخليجي (2025/ الربع الأول) إلى أن نسـبة الأيدي العاملة المواطنـة فـي مجلـس التعـاون مـن إجمالـي الأيدي العاملة الكلـي لا تتجاوز 22% مقابـل 78% للأيدي العاملة الوافــدة، حيــث نمــت الأيدي العاملة المواطنـة بمــا نســبته 3.1% في عام 2024 مقابــل 7.3% للأيدي العاملة الوافــدة مقارنــة بعام 2023. نشاط هذه الأيدي العاملة ليس مجرد نشاط إنتاجي أو اقتصادي، بل تحمل أنماطًا ثقافية ومجتمعية، ونماذج للعيش، وقيمًا ومحددات ثقافية توجه تعاملها مع الآخر وتعايشها معه، وهو ما يتصل بالتأثير على الهويات بشكل مباشر، ويشكل محكًا للهوية الخليجية، إما في استيعابها وفق منظوماتها الثقافية، أو التأثر السلبي بها، أو التصادم مع أنماطها. ومن عناصر الخطر الأخرى هو طبيعة التركيب الديموغرافي وما يفرضه من تحولات في الثقافة والفعل الاجتماعي؛ يتمركز أكثر من 61.8% من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي في الفئة العُمرية بين (15- 64 سنة)، ويطرح هذا التمركز أسئلة تتعلق بالفعل الاقتصادي لهذه الفئة، والتهيئة المهنية، وجودة التأهيل والتعليم المقدم لها، والفرص التنموية المتاحة لها عموماً، غير أنه يتعدى ذلك كون أن هذه الفئة أصبحت اليوم صانعة التغيير الثقافي، وموجهة التحول في الهويات في مجتمعات الخليج العربي، فخلال الحقب السابقة؛ كانت الفئات الأكبر سنًا أو الشريحة المتأخرة في هذه الفئة هي موجه التكوين الثقافي للمجتمعات عبر عمليات التربية، ونقل القيم، وتوجيه التنشئة الاجتماعية، وفي المقابل كانت المؤسسات الاجتماعية أكثر سيطرة وتوجيهًا للفئات الأقل سنًا. غير أن امتلاك معطى التقنية، وحدود الانفتاح على الآخر، وفسحة التأثير الرقمي والتواصلي في المجتمع، إضافة لانقطاع يتصاعد للوصل بين الأجيال مكّن الفئات الشابة من خلق التأثير والتوجيه للهويات، فهم من يصنعون اليوم طرائق التواصل الاجتماعي ويحددون أنماطه، وهم من يوجهون اليوم أنشطة الأسرة، وهم من يخلقون اليوم قيمًا جديدة للمهنة والتعلم وتدبير الحياة المعاشة -دون مزايدة أو مبالغة في انحسار دون الفئات الأخرى- ولكن يبقى السؤال من يستطيع توجيه هذه الفئة أيضًا؟ هذا سؤال مهم لتكوين ومستقبل وبقاء الهويات الوطنية في الخليج، خصوصًا في ظل معطى أن «الشباب الخليجي بنسبة انتشار للهواتف الذكية تزيد عن 90%، كما أنهم من بين أعلى معدلات استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى العالم».
وتتمثل عناصر الخطر الأخرى في قناعة هذه المجتمعات وارتباطها بالفعل الثقافي ودوره في التنمية، عوضًا عن ميل جزء كبير منها إلى عيش أنماط حياة عالمية في ظل حالة الرفاه العالية نسبيًا التي وفرتها الثروات الاقتصادية، إضافة إلى الدور المتسارع للإعلام الرقمي في الولوج إلى التأثير على قطاع واسع من القيم والأفكار السائدة في هذه المجتمعات، وتقديم الإعلام عمومًا لأنماط مقصودة وموجهة لتدبير الشخصية والحياة قد لا تتسق مع أنماط الهويات الخليجية. ومن عناصر الخطر كذلك أنماط التحضر السريعة وما يرافقها من انقطاع عن حياة المجتمعات ومكوناتها التقليدية، عوضًا عن الصراعات الدائرة في المحيط العربي والإقليمي عمومًا وما تحمله من تجاذبات وإرهاصات تمثل الهوية إحدى رحاها، ويمثل الدين أحد عناصرها بمكوناته وتفرعاته، غير أن من أخطر تلك العناصر هو عدم وجود فهم واضح في شكل نموذج وطني يتعارف عليه لتلك الهوية المرادة، ليس فقط في صورتها المادية من لباس وسلوك ومكونات أخرى، بل حتى في الجزء المعنوي والاعتقادي الحامل لها. وسنستعرض في الجزء الآخر من هذه المقالة كيف يمكن لهذه الدول مواجهة هذه الأخطار المحدقة بهوياتها، وتقديم مقاربة عملية ناجعة لترسيخها انطلاقًا من تلك الأخطار والهواجس.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
0 تعليق