لعل المتابع لمجريات الأحداث الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ دخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البيت الأبيض في العشرين من يناير الماضي يصعب عليه فهم الأوامر التنفيذية التي وقعها ترامب خاصة على صعيد المواجهة الواضحة مع الدولة الأمريكية العميقة بكل مؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية خاصة على الصعيد الفيدرالي وتحديدا في العاصمة واشنطن.
أصبح إيلون ماسك -ذراع ترامب القوي في الإدارة الأمريكية- يتابع المنظمات والأجهزة الأمريكية من خلال ما سُمي بالفساد والبيروقراطية في المؤسسات الفيدرالية، حيث يواجه عشرات الآلاف من الموظفين الطرد من عملهم من خلال عدم الرد على رسائل بالبريد الإلكتروني أرسلها وزير الكفاءات الوطنية. كما أن منظمة المساعدات الأمريكية التي تقدم مساعدات خارجية في ظل القوة الناعمة الأمريكية على صعيد الدول الفقيرة وحتى الشخصيات أصبحت في مواجهة مع إدارة ترامب وتم تجميد نشاطها بل تم الحديث عن اكتشاف فساد مالي وإداري.
وعلى ضوء هذه النماذج وغيرها يدور حديث جاد داخل الولايات المتحدة الأمريكية على الصعيد الفيدرالي وفي الولايات حول الأهداف الوطنية من خلال حملات الرئيس الأمريكي ترامب ومواجهته للدولة العميقة بكل مؤسساتها التنفيذية والأمنية خاصة وزارة الدفاع التي تتجاوز موازنتها السنوية ٧٠٠ مليار دولار، ولعل إبعاد رئيس الأركان الأمريكي مؤخرا يعطي مؤشرا على أن الرئيس الأمريكي ترامب يركز على عدد من المؤسسات الفيدرالية ذات الموازنات الكبيرة.
كما أن الأجهزة الأمنية الحساسة ليست بعيدًا عن التقييم والمتابعة، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك ١٧ جهازًا أمنيًّا تتشعب مهامها داخليا وخارجيا، ولها أدوار مركبة تتداخل فيها القضايا الأمنية والسياسية والاستراتيجية وعلى ضوء الضجة الكبيرة التي أشعلها الرئيس الجمهوري ترامب برزت تساؤلات حقيقية بين المراقبين والمفكرين والساسة وكبار كتاب الصحف الأمريكية حول مدى هذه المواجهة ونتيجة تلك المواجهة بين البيت الأبيض والدولة العميقة، حيث إن هذه الأخيرة لها تقاليد بيروقراطية ومصالح متشابكة في الداخل والخارج، كما أن هناك سرية البيانات ذات الحساسية العالية التي لا ينبغي الكشف عنها أو حتى الاقتراب منها في ظل عزم الرئيس ترامب على حجب السرية عن عدد من الملفات خاصة حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي في منتصف عقد الستينيات في مدينة دالاس في ولاية تكساس، حيث إن ملف تلك القضية التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية والعالم لا يزال يلفها الغموض.
وهناك ملفات أخرى يعتزم الرئيس الأمريكي ترامب الكشف عنها ومنها الغزو العسكري الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣ وتداعيات ذلك الغزو وما نتج عنه من نتائج سياسية وعسكرية، كما أن ملف أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ سوف يتم الكشف عن أسرارها وهي من الأحداث الكارثية التي تعرّضت لها مدينة نيويورك وواشنطن خاصة مبنى وزارة الدفاع. وعلى ضوء سياسات الرئيس الأمريكي ترامب فإن المواجهة مع الدولة الأمريكية العميقة سوف تكون كبيرة خاصة إذا أقدم ترامب على فتح تلك الملفات المعقدة وذات الحساسية ليس فقط على صعيد الداخل الأمريكي ولكن على صعيد شخصيات وقيادات سياسية واقتصادية وعسكرية خارجية.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش أوضاعا تكشف عن عمق التناقضات بين السياسة الخارجية وبين أوضاع الداخل، ولعل مسألة نجاح ترامب على صعيد قضايا الداخل قد تبدو ممكنة في ظل أغلبية جمهورية في الكونجرس بغرفتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وهنا أمام الرئيس الأمريكي ترامب فرصة كبيرة من خلال سيطرته على السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، تبقى السلطة القضائية التي من خلال استقلالها وفق الدستور الأمريكي يمكنها أن تحد من اندفاع الرئيس الأمريكي ترامب، ومع ذلك فإن الدخول إلى مفاصل القضاء وتنحية عدد من القضاة خاصة الذين لهم خصومة مع ترامب خلال مشهد القضايا والاتهامات التي وجهت للرئيس الأمريكي ترامب في عدد من القضايا والتي لا يزال بعضها غير محسوم.
إذن المشهد الأمريكي الداخلي أصبح أكثر سخونة من المشهد السياسي الخارجي وهي ظاهرة لم تحدث كثيرا في التاريخ الأمريكي الحديث على اعتبار أن الرؤساء الأمريكيين يركزون على المصالح الاستراتيجية للدولة الأمريكية خارج الحدود ومن خلال المواجهات مع الدول ذات المصالح المتناقضة مع أمريكا، كما أن السياسة الخارجية الأمريكية لها امتدادات عديدة في قضايا الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعلى صعيد التحالفات مع الناتو والتحديات مع إيران والصين وحماية الكيان الإسرائيلي.
المواجهة بين الرئيس الأمريكي ترامب والدولة العميقة داخل الولايات المتحدة الأمريكية تستحق المتابعة حيث إن البيروقراطية الأمريكية في المؤسسات الاتحادية ليست سهلة خاصة المؤسسات العسكرية والأمنية والمدنية، علاوة على التناقضات المتواصلة مع عدد من حكام الولايات، كما أن عشرات القضايا تم رفعها من قبل المحاكم ضد عشرات من القرارات التنفيذية التي وقعها الرئيس الأمريكي ترامب خلال الشهرين الأخيرين يناير الماضي وفبراير الحالي، وهذا يعني أن معارك في ساحات القضاء سوف تنطلق علاوة على المقاومة الشرسة التي سوف تندلع بين المؤسسات البيروقراطية والرئيس ترامب في القادم من الأيام.
ولعل السؤال الأهم: هل يمضي الرئيس الأمريكي ترامب في سياسة الإصلاح ضد الدولة الأمريكية العميقة أم يكتشف لاحقا بأن مثل تلك المواجهة سوف تسبب له متاعب كبيرة تجعله يتراجع بشكل تدريجي.
0 تعليق