كيف غيّرت الحرب حياة الأوكرانيين؟

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أنطون جروشيتسكي ـ فولوديمير بانيوتو

الحرب تغيّر البلدان. لم يتسبب الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا، الذي بدأ عام 2022، في مقتل عشرات الآلاف من الأشخاص فحسب، بل أدى أيضًا إلى تشريد الملايين، وتدمير المدن والمجتمعات، وإعاقة الاقتصاد الأوكراني. لكن تأثيره لم يتوقف عند ذلك؛ فقد غيّر أيضًا نظرة الأوكرانيين إلى العالم من حولهم. منذ عام 2022، شهدت أوكرانيا تحولًا في الرأي العام حول العديد من القضايا الجوهرية، مثل كيفية تصور الأوكرانيين لهويتهم الوطنية، وطريقة رؤيتهم لتوجهاتهم المستقبلية تجاه العالم الأوسع، ومستوى استعدادهم لمقاومة العدوان الخارجي.

يجري معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع استطلاعات للرأي العام على مستوى أوكرانيا منذ استقلال البلاد في عام 1991. وقبل اندلاع الحرب الشاملة، كان المعهد ينفذ ما يتراوح بين 100 و150 دراسة سنويا حول مجموعة واسعة من القضايا. وحتى بعد غزو روسيا لأوكرانيا في عام 2022، استمرت المنظمة في إجراء هذه الاستطلاعات، وعادت تدريجيا إلى مستويات ما قبل الحرب تقريبا. ومع ذلك، لا يمكن للمعهد إجراء استطلاعات إلا في المناطق الخاضعة لسيطرة أوكرانيا، ولا يقوم بتنفيذ استطلاعات للرأي في صفوف اللاجئين خارج البلاد أو في المناطق التي تحتلها القوات الروسية.

منذ بداية الحرب، أصبح الأوكرانيون يقدرون دولتهم وسيادتهم وحقوقهم الديمقراطية أكثر من أي وقت مضى. كما أسهمت 3 سنوات من القتال في تقليص الفروق بين المواقف في مختلف المناطق، ما عزز التوحيد عبر الخطوط العرقية واللغوية. ويساعد هذا التماسك المتزايد والدعم الأكبر للدولة بين الأوكرانيين في تعزيز الجهود الرامية إلى مقاومة روسيا. ومع ذلك، فإن زمن الحرب يخلق أيضًا انقسامات جديدة، مثل تلك التي تظهر بين أفراد الجيش وأولئك الذين لم يخدموا، وبين النازحين داخليا والمقيمين في المناطق المحتلة، وهو ما قد يؤدي إلى احتكاك وتوترات اجتماعية.

يدرك الأوكرانيون صعوبة المهمة التي تنتظرهم. فبعد الهجوم المضاد الفاشل في العام الماضي، يتوقعون أن تستمر الحرب لفترة أطول مما كانت عليه من قبل، وهم أقل تفاؤلا بشأن المستقبل. فقد انخفضت نسبة أولئك الذين يعتقدون أن أوكرانيا ستكون دولة مزدهرة داخل الاتحاد الأوروبي خلال 10 سنوات من 88% في أكتوبر 2022 إلى 73% في ديسمبر 2023 -بل وحتى إلى 55% في ديسمبر 2024. ولكن هذا التناقص يمكن اعتباره فهما عمليا للصعوبات التي تفرضها الحرب. فقد عززت الحرب الإحساس بالوطنية بين الأوكرانيين، ودعمت عزيمتهم على النضال من أجل حريتهم، وعمقت رغبتهم في التحول إلى دولة آمنة ومزدهرة داخل الاتحاد الأوروبي.

تعكس استطلاعات الرأي في عام 2022 بعد بدء الحرب التأثيرات المألوفة لزمن الحرب على المواقف العامة. فقد أصبح الأوكرانيون أكثر تسامحًا مع إخفاقات الدولة مع تركيز البلاد على مقاومة روسيا. وبعد بدء الحرب، انخفضت مستويات المعيشة في أوكرانيا، وارتفع معدل الفقر، وارتفعت البطالة بشكل حاد -ومع ذلك، زادت الموافقة العامة على الدولة. وقبل شهرين فقط من الحرب، في نوفمبر 2021، كان 5% فقط من الناس يعتقدون أن الحكومة المركزية تتعامل مع مسؤولياتها بشكل جيد، بينما اعتقد 44% أنها لا تقوم بذلك. وبحلول ديسمبر 2022، بعد 8 أشهر من الحرب، تغيرت التقييمات بشكل شبه كامل: وافق 41% على الحكومة في حين لم يوافق عليها سوى 9%.

من بين مؤسسات الدولة، تتمتع القوات المسلحة بأعلى مستوى من الثقة. فخلال العام الأول من الحرب، ارتفعت الثقة في الجيش من 72% إلى 96%. كما كان هذا الارتفاع ملحوظًا في تصورات الأوكرانيين تجاه الرئاسة. ففي ديسمبر 2021، قبل الحرب، كان 27% فقط من الأوكرانيين يثقون في الرئيس فولوديمير زيلينسكي. وبحلول ديسمبر 2022، بعد عشرة أشهر من القتال، ارتفع هذا الرقم إلى 84% -وهي نسبة غير مسبوقة من الثقة في الرئيس في تاريخ السياسة الأوكرانية. كما شهد البرلمان زيادة في الثقة خلال الفترة نفسه، حيث ارتفعت من 11% إلى 35%. وتؤكد هذه النتائج تأثير الوحدة الوطنية التي خلفتها الحرب: فقد اتحد الأوكرانيون إلى حد كبير وراء قادتهم ومؤسسات الدولة وهم يقاتلون من أجل مستقبل بلادهم.

كان شعور الوحدة الوطنية هذا أقل وضوحًا في الماضي. تقع أوكرانيا بين روسيا وأوروبا، وقد شكل هذا الموقع خياراتها الجيوسياسية طوال فترة استقلالها. في معظم الانتخابات البرلمانية والرئاسية، كانت المواقف تجاه روسيا والاتحاد الأوروبي من بين القضايا الرئيسية. وقد تناوبت الرئاسة بين شخصيات تميل إلى روسيا وأخرى تميل إلى أوروبا. سعى الرئيس فيكتور يوشينكو، الذي حكم من عام 2005 إلى 2010، إلى دفع أوكرانيا نحو الغرب والانضمام إلى أوروبا، بينما سعى خليفته، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، الذي حكم من عام 2010 حتى الإطاحة به بشكل دراماتيكي في عام 2014، إلى اتباع سياسة موالية لروسيا.

قبل عام 2014، كانت المواقف العامة تسير بالتوازي تقريبا مع هذه التقلبات، فنحو 50 إلى 65 % من الأوكرانيين يفضلون التحالف مع روسيا، في حين فضّل 35 إلى 50 في المائة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، كان الأوكرانيون في جميع المناطق، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ودونباس، وغيرها من الأراضي الخاضعة حاليا للاحتلال الروسي، يتصورون باستمرار أن بلادهم دولة مستقلة؛ ولم يسعوا إلى إعادة الاندماج مع روسيا. ومن المثير للاهتمام أن التوجه المؤيد لأوروبا لا يعادل المشاعر المعادية لروسيا. ومن بين أولئك الذين أيدوا عضوية الاتحاد الأوروبي، كان لدى الغالبية العظمى منهم موقف إيجابي تجاه روسيا وسعوا إلى إقامة علاقات حسن الجوار.

وحتى العدوان الروسي الأخير، لم يكن الأوكرانيون مهتمين بشكل خاص بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. ففي الفترة من عام 2009 إلى عام 2013، لم يكن سوى 16 إلى 19% من السكان يرغبون في انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ولم يدرج أغلب الساسة هذه النقطة حتى في برامجهم الانتخابية، لأنها لم تكن تحظى بشعبية. وخلال ثورة الكرامة في عام 2014، عندما أطاح الأوكرانيون بالرئيس الموالي لروسيا يانوكوفيتش، لم يطالب المحتجون بعضوية حلف شمال الأطلسي.

تغير الوضع بشكل كبير بعد أن استولت روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014. أدى هذا العدوان إلى زيادة كبيرة في الدعم الشعبي لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، حيث وصل إلى 48% في عام 2015. اقترح بعض المحللين أن روسيا هاجمت أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى الحلف، لكن في الواقع، أصبح انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي أكثر إلحاحًا كرد فعل على العدوان الروسي. من المؤكد أنه حتى بعد عام 2014، كان هناك تمايز إقليمي كبير في دعم عضوية الحلف. فقد رغب معظم الأوكرانيين في الانضمام إلى التحالف، لكن العديد في شرق وجنوب أوكرانيا ظلوا ضد هذه الفكرة. في عام 2019، كرس البرلمان الأوكراني تفضيل أوكرانيا الجيوسياسي للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في الدستور، لكن أقلية كبيرة من المواطنين الأوكرانيين، معظمهم في الشرق والجنوب، بقيت غير مهتمة بمزيد من التكامل مع الغرب. في عام 2021، أراد 70% من السكان في المناطق الغربية و58% في المناطق الوسطى، بما في ذلك العاصمة كييف، الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن في المناطق الجنوبية، أيّد أقل من نصف المشاركين هذه الفكرة، وفي المناطق الشرقية، أيّدها أقل من ثلث المشاركين. ولم تشمل هذه الاستطلاعات شبه جزيرة القرم والمناطق التي استولت عليها روسيا في دونباس عام 2014.

لم يبدأ غالبية الأوكرانيين -في جميع المناطق وبغض النظر عما إذا كانوا يتحدثون الروسية أو الأوكرانية- في دعم عضوية الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلا بعد الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في عام 2022. وبحلول يوليو 2022، كان 81% من الأوكرانيين يرغبون في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، و71% يفضلون الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. أما فيما يتعلق بالمواقف تجاه روسيا والروس، فقد انخفضت نسبة الأوكرانيين الذين يحملون وجهات نظر إيجابية إلى 2%. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن معهد الدراسات الاستقصائية الأوكراني لم يتمكن في استطلاعات يوليو 2022 من مقابلة السكان في الأراضي التي تحتلها روسيا، مثل المناطق الشرقية والجنوبية التي كان الدعم فيها لروسيا أعلى تاريخيا. ومع ذلك، من بين الأوكرانيين الذين كانت لديهم وجهات نظر إيجابية تجاه روسيا في عام 2021، فإن 80% منهم أصبحوا يحملون وجهات نظر سلبية بعد الغزو في عام 2022. ويشير هذا التحول الدرامي إلى أن الشعب الأوكراني اختار بشكل حاسم ولا رجعة فيه التحالف مع أوروبا والغرب، وليس ترك مستقبله مرتبطًا بروسيا.

لا شك أن الحرب ألحقت خسائر فادحة بالأوكرانيين وهم يدركون تمام الإدراك أن النصر ليس مؤكدًا، فبعد فشل الهجوم المضاد المتوقع للبلاد في عام 2023 بتحقيق مكاسب كبيرة، ساءت المؤشرات إلى حد ما. على سبيل المثال، في مايو 2023، كان 10% فقط من الأوكرانيين على استعداد لتأجيل تحرير أراض معينة إلى المستقبل؛ وبحلول نهاية عام 2024، ارتفع هذا الرقم إلى 38 %. وحتى مع بقاء الأوكرانيين متفائلين في الغالب بشأن مستقبل بلادهم، فقد ارتفعت نسبة المتشائمين أيضًا إلى 28% من 19% في ديسمبر 2023.

ومع ذلك، يظل الأوكرانيون صامدين. تشكل الحالة المعنوية والنفسية للسكان عاملا حاسما في سياق أي صراع عسكري، وخاصة أثناء الحرب. فهي تحدد استعداد البلاد للدفاع عن نفسها، وإرادتها في تحقيق النصر، وقدرتها على الصمود في ظل الضغوط والظروف الاستثنائية. كان مستوى التماسك الاجتماعي في أوكرانيا مرتفعا بشكل استثنائي بين عامي 2022 و2024. على سبيل المثال، بين المجتمعات التي تستضيف العديد من النازحين داخليا في أوكرانيا، كان 78% من المستجيبين يحملون وجهات نظر إيجابية تجاه مواطنيهم النازحين (وكان 19% آخرون محايدين). وفي خضم ويلات الحرب، يشعر معظم الأوكرانيين بإحساس قوي بالهوية الوطنية، والانتماء إلى البلاد، والثقة في مؤسسات الدولة. بين عامي 2022 و2024، حدد ما معدله 80% من المستجيبين أنفسهم في المقام الأول كمواطنين أوكرانيين، بدلا من تحديد هويتهم بحسب المنطقة أو المجموعة العرقية أو كمواطنين عالميين.

كما كان للحرب تأثير في تسطيح الاختلافات الإقليمية والإثنية التي كانت قائمة، إذ لطالما كانت العديد من مناطق أوكرانيا تتمتع بخصائص ثقافية متميزة. قبل الحرب العالمية الأولى، كان الجزء الغربي من البلاد جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية، وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، خضعت المنطقة الغربية للسيطرة البولندية. يتحدث معظم السكان في هذا الجزء من البلاد اللغة الأوكرانية ويميلون أكثر نحو الغرب. في المقابل، تتمتع الأجزاء الشرقية والجنوبية من أوكرانيا بوجود عدد كبير من السكان الناطقين بالروسية. وليس من المستغرب أن تظهر استطلاعات الرأي العام قبل عام 2014 اختلافات كبيرة بين الشرق والجنوب من ناحية والغرب والوسط من ناحية أخرى عندما يتعلق الأمر بالمواقف تجاه روسيا والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والشخصيات السياسية والأعياد الرسمية والشخصيات التاريخية. وكانت هذه الاختلافات واضحة أيضًا عبر المجموعات اللغوية، حيث يفضّل المتحدثون بالأوكرانية تعميق العلاقات مع الغرب ويفضّل المتحدثون بالروسية تعميق العلاقات مع روسيا.

ولكن بعد بدء الحرب الشاملة في عام 2022، انخفضت الاختلافات الإقليمية واللغوية العرقية بشكل جذري. على سبيل المثال، إذ لو تم إجراء استفتاء حول عضوية الاتحاد الأوروبي في عام 2021، كان 70% من سكان الغرب أيدوا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنحو 29% فقط في الشرق. وبحلول منتصف عام 2022، ارتفعت نسبة المؤيدين في الغرب إلى 88%، بينما بلغت النسبة في الشرق 71%.

تتبع مؤشرات أخرى نمطا مشابها؛ ففي أكتوبر 2022، اعتبر معظم الأوكرانيين، بنسبة 60%، أنفسهم جزءًا من المقاومة الوطنية، بينما شعر 32% آخرون أنهم متورطون جزئيا على الأقل في مقاومة العدو. ولم يشعر سوى 4% من المستجيبين بأنهم جزء من المقاومة. وأفاد 84% من المشاركين في الاستطلاع أنهم أصبحوا يستخدمون اللغة الأوكرانية بشكل أكبر، وارتدى 55% منهم الرموز والألوان الوطنية بشكل أكثر تكرارًا. كما زاد الدعم للقوات المسلحة، حيث أشار 81% إلى أنهم تبرعوا بالمال للقوات المسلحة، بينما انضم 21% إلى الجيش الأوكراني.

رغم أن الأوكرانيين تمكنوا من التكيف مع تقلبات الحرب، فإنهم ظلوا متفائلين إلى حد كبير بشأن مستقبلهم، حيث يعتقد 19% فقط من الأوكرانيين أن اقتصادهم سوف يدمر بعد 10 سنوات وأن العديد من مواطنيهم سيفرون من البلاد. ومع ذلك، لا يزال أغلب الأوكرانيين يعتقدون أن أوكرانيا ستصبح دولة مزدهرة داخل الاتحاد الأوروبي خلال العقد المقبل. قد تكون الحرب قد قللت قليلا من تفاؤل الأوكرانيين بالمستقبل، ولكن على عكس أهداف موسكو، فقد جعل الغزو أوكرانيا أكثر وحدة وأكثر تصميما على الابتعاد عن روسيا والتوجه نحو الغرب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق