مع بداية وقف إطلاق النار في غزة، وبعد مضي ما يقارب سنة وبضعة أشهر على الطوفان المجيد، وقف الناس من الطوفان مواقفَ متباينةً؛ فمنهم من شكَّك في جدوى الطوفان وآثاره التي وصفها بالمدمرة والمتهورة، ومنهم من وصف الطوفان بالبطولة والتحدي وإذلال للعدو. ولكل فريق من الحجج والبراهين ما يدلِّل به.
الفريق الأول الذي وصف الطوفان بالتهوُّر والمهلكة، نظر للنتائج التي سببها الطوفان من حيث عدد الشهداء والجرحى والدمار الشامل لكافة مقوِّمات الحياة، وما لحق بأهالي القطاع الكرام من مآسٍ لا يعلم مداها إلا الله.
كما أن المعركة من وجهة نظرهم غير متكافئة ابتداءً، والولوج فيها بمثابة انتحار.
أما الفريق الآخر ،فنظر إلى الطوفان على أنه حلقة من حلقات الصراع بيننا وبين العدو، صراع ممتد لعدة عقود، وأن العدو استخدم خلال العقدين الأخيرين من الصراع سياسة (جز العشب) لتبقى المقاومة في حالة ضعف وهوان.
صراع لازَمَه حصار خانقٌ أريد منه موتٌ سريري بطيئ لأهلنا في القطاع، وهجرة بطيئة وتمرد على المقاومة.
إضافة إلى تعرُّض المسجد الأقصى لاعتداءات المستوطنين، وعزمهم على تقسيمه زماناً ومكاناً لصالح اليهود.
لقد أدرك قادة المقاومة هذه المعادلة، فأعدوا العُدَّة لذلك، وأدركوا المقولة الشهيرة: (ما حك جلدك مثل ظفرك).
أدركوا أن الجميع يسير وفق قطار التطبيع بعد أن تخلَّوا عن القضية الفلسطينية، وأصبحت على هامش التاريخ.
أدركوا أن العدو يعد العدة كعادته لضرب المقاومة في القطاع، فكان لا بد من ضربة استباقية لعلَّ نتائجها تكون أقل سوءاً من تلقي ضربة عدوانية.
كما أدركوا أن الأسرى الأبطال في سجون العدو، والذين أمضوا عشرات السنين، لا أمل في الإفراج عنهم إلا بأسر بعض جنود الاحتلال.
وللرد على الفريقين أود أن أضع بين يدي القارئ الكريم النقاط التالية:
١- بعض من ينتقد الطوفان، إما أن يكون حاقداً على حماس، أو أجيراً ضمن الذباب الإلكتروني المتصهين .لذلك فمناقشة هؤلاء تدخل ضمن دائرة العبث ومضيعة للوقت.
أو أن بعضهم يفتقر إلى المعلومة الدقيقة.
أو أنه أحد الضحايا لمفاهيم مغلوطة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.
أو أنه يجهل مفاهيمَ دقيقةً لمفهوم النصر والهزيمة والتضحية من أجل كرامة الإنسان وحريته.
أو أن لديه قصوراً في فهم النتائج بعيدة المدى.
٢- غاب عن كثير من هؤلاء القوم مآلات المعارك ونتائجها التي لا يعلمها إلا الله، وأنَّ ليس من يخطط لها ويرسمها، يدرك نتائجها.
ومثال ذلك: لَمَّا أراد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الخروج من أجل العِير يوم بدر، لكن الله اراد له أمراً آخر، فكانت معركة الفرقان، وما أدراك ما معركة الفرقان.
وفي واقعنا المعاصر، خطَّطت روسيا للاستيلاء على أوكرانيا، معتقدةً بحسم الأمر خلال بضعة أشهر، لكن المعركة طالت ودخلت عامها الثالث.
ومثله هذه وتلك: المقاومة في غزة، أرادت معركة قصيرة تأسِر فيها بعض الجنود الصهاينة، ليتم تبادلهم بصفقة يتم خلالها الإفراج عن أسراها، لكن الله اراد أمرا آخر.
كذلك اليهود، أرادوا القضاء على حماس في غزة في مدة لا تتجاوز بضعة أسابيع، فإذا بها معركة تستمر إلى سنة وبضعة أشهر.
والخلاصة: أن النتيجة والمآلات، رغم التخطيط الدقيق لها، تأتي على خلاف ذلك.
٣- إن مفهوم النصر والهزيمة يختلف باختلاف المعتقدات والمعادلات؛ ففي عقيدة المسلم النصر هو الثبات على المبدأ أو الشهادة، فالثبات على المبدأ هو نصر بحد ذاته.
فالغلام مع أصحاب الأخدود انتصر رغم تقديم نفسه للموت.
ونبي الله إبراهيم عليه السلام انتصر رغم قذفه في النار.
فالثبات على المبدأ هو النصر رغم التضحيات الجسام.
٤- معايير القوة في المواجهة لها معادلاتها؛ فالدفاع عن الشرف والكرامة والحرية يتطلَّب تضحياتٍ جِساماً، مهما كانت الكُلفة. ومثال ذلك: في غزوة مؤتة أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة آلاف مجاهد لمواجهة ٢٠٠ ألف مقاتل (مجموع الروم ومعهم قبائلُ عربية)؛ وذلك في موقعة مؤته .
كل ذلك من أجل مقتل سفيره إلى بلاد الروم، وكان عليه الصلاة والسلام يدرك أن قادته سوف يُقتلون بدليل أنه قال: (إنْ مات فلان، فيكون فلان وذكر أسماء القادة). كل ذلك من أجل كرامة وعزة وهيبة المسلمين، وردعاً للظالم ودفاعاً عن المظلومين.
٥- إن مفهوم النصر للطرف الأضعف أن لا ينكسر ويزول ، وإن لم يحسم المعركة لصالحه بالقتال.
ومفهوم الهزيمة للقوي هو الفشل في تحقيق أهدافه وإنْ أَلْحَقَ البطش بالضعيف.
وهذه المسألة تحتاج لتفصيل على النحو الآتي:
مع بداية طوفان الأقصى أعلن نتنياهو عن عدة أهداف لتحقيقها؛ وهي:
- القضاء على حماس عسكريا وإداريا لحكم القطاع.
- تحرير الأسرى اليهود بالقوة.
- تعزيز الردع الإسرائيلي.
- عودة المستوطنين إلى منازلهم.
- مطالبة بعض وزراء حكومته بإعادة بناء المستوطنات داخل غزة، واحتلال شمالها، مع استمرار الحصار.
- إعادة تشكيل شرق أوسط جديد تحت هيمنة الكيان الصهيوني، والعمل على تهجير الفلسطينيين…إلخ.
أما حماس، فكان لديها عدة شروط للتوصل إلى اتفاق، وهي:
- انسحاب جيش الكيان الصهيوني من كامل قطاع غزة.
- وقف إطلاق النار.
- رفع الحصار عن قطاع غزة، وإدخال المساعدات اللازمة.
- الإفراج عن الأسرى بتبادل مشرِّف.
- عودة المهجَّرين وإعادة الإعمار.
هذه الشروط التي فرضْتها حماس، والتي رفضها نتنياهو طوال الأشهر الماضية، حيث اعتبرها هزيمة لإسرائيل، وقال: لا يمكن قبولها. وأخيراً رضخ لها، وحققت حماس كافة شروطها.
فمن المنتصر يا ترى؟ ومن المهزوم؟.
٦- لا حرية بلا ثمن.
يخطئ من يظنُّ أن نيل الحرية والتخلص من نير الاستعمار، وتحرير الأرض، والدفاع عن كرامة الإنسان، وتحرير المقدسات يأتي بلا ثمن باهظ؛ فطريق ما سبق عسير مملوء بالأشواك، ومخضَّب بالدماء. وكل الشعوب التي نالت حريتها وشرفها وكرامتها إنما نالت ذلك بقوافلَ من الشهداء الأبرار، كما حدث في الجزائر وليبيا وأفغانستان، وتضحيات جسام بملايين البشر كما حدث في فيتنام وكمبوديا والصين.
فالتضحيات وإراقة الدماء هي وقود التحرر والتخلص من الاستعمار، أما الركون إلى الأعداء، وتجنُّب مقارعتهم، فهو طريق للذل والخنوع والعبودية، ورفع الراية البيضاء والاستسلام.
٧- إنَّ ما حدث في طوفان الأقصى لا يعدو أن يكون حلقةً من حلقات الصراع بيننا وبين الكيان الصهيوني. وغالباً كان العدو هو الذي يمسك بزمام المبادرة في عدوانه، لكن معركة طوفان الأقصى أتت على خلاف ذلك، فكانت المقاومة هي التي بادرت؛ لذلك حقَّقت كثيراً من المكاسب؛ يمكن أن نجملها في لآتي:
- مباغتة العدو، حيث أصابوه في مقتل؛ مقتل أمنه ورفاهيته التي على أساسهما قام الكيان.
- كسر مفهوم الردع لدى اليهود، وأنه جيش لا يهزم.
- صمود المقاومة الأسطوري، حيث واجهوا الكيان الصهيوني ومعه الغرب الصليبي والمتصهينين من العرب المتخاذلين.
- قتل وجرح الآلاف من جنود الكيان الصهيوني.
- تدمير عدد كبير من آليات العدو العسكرية.
- خسائر اقتصادية فادحة تقدَّر بمليارات الدولارات.
- هجرة خارجية وداخلية بسبب فقدان الأمن والرفاهية.
- إفشال الكيان بتحقيق أهدافه.
- إفشال رؤية الكيان لِما يُسمَّى باليوم التالي وفق خطة الجنرالات.
- إفشال مخطط تهجير أهالي قطاع غزة.
- تشويه سمعة الكيان على المستوى العالمي، حيث أصبح في نظر أغلب دول العالم كياناً مجرماً نازياً.
- إعادة القضية الفلسطينية إلى زخَمَها الأول بعد أن تم تهميشها.
- توقيف قطار التطبيع.
- محاكمة الكيان الصهيوني وقادته لدى محكمة العدل الدولية ولأول مرة.
- إحياء جذوة الجهاد، وإثبات أن المقاتل الفلسطيني من أشجع المقاومين، حيث واجهوا العالَم بأسره، وصمدوا حتى آخر لحظة من القتال، رغم تكالب الجميع عليهم ورغم الحصار الجائر.
- كشف الطوفان حقيقة الغرب الصليبي المجرم وانحيازه التام للكيان الصهيوني.
- كشف الطُّوفان مواقف المنافقين والمتخاذلين من العربان المتصهينين.
- كشف الطوفان مواقف السلطة الفلسطينية العميلة إلى مستوى في غاية الانحطاط.
- أثبت الطوفان أن التربية الإيمانية أساسُ نجاح المقاومة وثباتها، وأن معيَّة الله كانت مع المجاهدين، وبذلك سطَّروا أروع البطولات التي فاقت الخيال.
- أدى الطوفان إلى قطع علاقة بعض الدول مع الكيان الصهيوني، وأصبح الكيان منبوذاً في نظر العالم.
- أدى الطوفان إلى الوصول إلى حقيقة معرفة القضية الفلسطينية، ومظلومية أهلها لدى الكثير من طلاب الجامعات في العالم وأصحاب الفكر والإعلام والمفكرين.
- إقبال الغرب على محاولة لفهم الإسلام والقضية الفلسطينية بصورة أعمق وأدق مما كان يصلهم.
أما ما لم تتوقعه المقاومة، فيمكن تلخيصه فيما يلي:
- لم تتوقع أن المعركة ستطول بهذا الزمن.
- لم تتوقع أن يتكالَب عليها كافة الدول الغربية بهذا الكم والكيف.
- لم تتوقع تخاذُل وتعاون العربان عليها بهذا الانحطاط.
- لم تتوقع المقاومة عجز أهلنا في ٤٨ بهذا المستوى.
- لم تتوقع المقاومة وقوف أهل الضفة بهذا المستوى من الضعف الذي لم يرتقِ إلى مستوى مساندة أهلنا في قطاع غزة.
هكذا شأن التوقعات المستقبلية، تأتي على خلاف أهل التخطيط، مهما ملكوا من مقوِّمات وقدرات. فالمستقبل لا يعلمه الا الله.
في الختام؛ يبقى الطوفان علامةَ فخر وعزة للمجاهدين في قطاع غزة، لصمودهم الأسطوري أمام كافة قوى الشر، وحلقة من حلقات الصراع، حيث علَّموا الناس من خلاله معاني الرجولة والتضحية والفداء والصبر، وأن إرادة المقاتل العقائدي تفوق كل إمكانيات البشر المادية، وأن جذوة الجهاد سوف تستمر مع الكيان الصهيوني إلى أن يحقق الله النصر لتحرير المسجد الأقصى وكل فلسطين، وما ذلك على الله بعزيز.
0 تعليق