في الأشهر الأولى من الحرب الروسية الأطلسية على الأراضي الأوكرانية، كانت وسائط الميديا الغربية السائدة، وهي تواكب الحرب الميدانية المعززة بسيل جارف من العقوبات الاقتصادية الكاسحة، تبشر في تغطياتها وتعدادها لخسائر «العدو» الروسي، بقرب انهيار الاقتصاد الروسي والعملة الوطنية الروسية (روبل). لكن الآن، نفس هذا الإعلام، ينشر ويروج لتقارير المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تلحظ نمواً فاق التوقعات للاقتصاد الروسي. وهو ما تفاخرت به يوم الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 2024، ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية على حسابها في منصة «تليغرام» الروسية، استشهدت ببيانات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي تذهب إلى أن الاقتصاد الروسي سينمو بشكل أسرع من جميع الاقتصادات المتقدمة، وأن روسيا أصبحت رابع أكبر اقتصاد في العالم (بمعادل القوة الشرائية للناتج المحلي الإجمالي). واستشهدت أيضاً بتقرير للأمم المتحدة يتضمن توقعات محدثة لعدد من البلدان والمناطق مقارنة بتوقعات يناير (2024)، حيث كان التعديل الأكثر أهمية يتعلق بروسيا (في يناير، كان النمو المتوقع 1.3% في عام 2024 ارتفع إلى 2.7%). كما أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) رفعت توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في عام 2024 من 1.8% إلى 2.6%، ما جعلها سادس صاحبة أسرع الاقتصادات الرئيسية نمواً في العالم هذا العام.
كل هذا جيد، وصار مسلماً به الآن. فقد نجح الاقتصاد الروسي في الاستدارة العسيرة (التي بدت لوهلة مستحيلة)، من وجهته الأوروبية اللصيقة للغاية، إلى الوجهة الآسيوية أساساً والإفريقية جزئياً، ونجح في تحوير جزء من طاقاته الإنتاجية، خلقاً لاقتصاد حرب جزئي لكنه مستقطِب لعمالة كثيفة ورؤوس أموال ضخمة يتم توظيفها في المجمع الصناعي الحربي، ونجح في الالتفاف على العقوبات الهيدروكربونية (النفط والغاز الروسيين). لكن هذه الاستدارة لم تعالج بعد أزمة قطع شرايين اتصال الاقتصاد الروسي بالنظام النقدي العالمي، الناتجة عن إخراج أهم البنوك الروسية من نظام سويفت، وحزم العقوبات الغربية التي تلاحق التحويلات وأي عملية نقدية روسية في جميع بلدان العالم، وبضمنها بلداننا الخليجية. فما زالت الدول تتهيب من القبول والتعامل مع المقاربة التي روجت لها روسيا والصين قبل أن تشرعا في تطبيقها على نطاق واسع، وهي استخدام العملات الوطنية في عمليات الدفع الدولية للتجارة في السلع والخدمات. وما زالت البنوك والمؤسسات المالية في بلدان العالم تمتنع جزئياً، أو تتهرب، من إجراء معاملات مالية لصالح شركات ومؤسسات وأفراد من روسيا الاتحادية.
وهناك موجات من العزوف والتمنع والرفض غير المباشر لفتح حسابات بنكية لشركات ومؤسسات روسية، بما فيها الشركات الحاصلة على تصاريح رسمية مبدئية من السلطات والجهات المعنية لاستكمال بيانات تسجيلها كشركات مكتملة الشروط المؤهلة لفتح حسابات بنكية لإجراء معاملاتها المحلية والدولية. ويلاحظ أن الموجات تعلو وتهبط تبعاً لشدة الضغوط والملاحقة التي تقوم بها وزارة الخزانة الأمريكية ووزارة العدل الأمريكية بمساعدة مكتب التحقيقات الفيدرالي وبعض المؤسسات الأمنية الأمريكية والبريطانية الأخرى، على الدول، وتهديدها بالعقوبات الثانوية إن هي لم تشارك في إحكام طوق العقوبات الأمريكية على روسيا.
في منتصف السنة الماضية (2024)، زادت هذه الضغوط، خصوصاً على البنوك التي فزعت من تهديدات إخراجها من أنظمة الدفع الدولية بين البنوك، وراحت تتصرف على هذا الأساس لتجنيب نفسها خسائر تفوق بكثير العوائد التي ستجنيها من المعاملات النقدية مع قطاعات الأعمال الروسية. يحدث هذا على الرغم من أن العقوبات الأمريكية (وكذلك الأوروبية)، هي عقوبات أحادية الجانب ليست صادرة عن جهة دولية مثل الأمم المتحدة، وبالتالي فإنها غير ملزمة لأي دولة باستثناء الدول التي أنشأتها.
حتى الصين التي وصلت القيمة الإجمالية السنوية لتجارتها البينية مع روسيا إلى 240 مليار دولار (بيانات الجمارك الصينية)، بدأ بعض بنوكها التصرف على أساس عدم المجازفة بفقدان القدرة على الوصول إلى الأسواق الغربية من أجل الوصول إلى السوق الروسية. وذلك على الرغم من تجاوز الصادرات الصينية إلى روسيا في عام 2023 لـ111 مليار دولار، بزيادة 67% عن عام 2021، حيث صارت السلع الصينية الآن تشكل 38% من واردات روسيا، مقابل ذهاب 31% من صادرات روسيا إلى الصين. ومع أن جميع البنوك الصينية تقريباً، لا سيما بنوك الأقاليم الصينية التي يفوق تعدادها 4500 بنك، ما زالت تواصل معاملاتها الاعتيادية مع العملاء الروس، إلا أن بعض البنوك الصينية (بما في ذلك بنك بينج آن، وبنك نينغبو، وبنك الصين جوانجفا، وبنك كونشان الريفي التجاري، وبنك جريت وول ويست تشاينا، وبنك شنتشن الريفي التجاري، وبنك دونجقوان الريفي التجاري، وبنك تشيه شانغ الصيني)، تتلكأ وتماطل في قبول المدفوعات الروسية، وهو ما يجد تفسيره في ارتفاع متوسط وقت معالجة مثل هذه المدفوعات إلى ثمانية عشر يوماً. وهناك أيضاً حدود للمدفوعات عبر الحدود. فالصين لا تبدو في وارد مساعدة روسيا من خلال زيادة دور الروبل في المعاملات بين البلدين، كما عملت البنوك الصينية على تشديد متطلبات الامتثال (Compliance) للعديد من الشركات الروسية. إنما ليس هذا كل شيء، للحديث صلة.
0 تعليق