عندما كنا نعمل على ملحق "في العمق" الذي كانت تصدره صحيفة "الوطن"، كان لابد من قراءة العديد من الكتب الأجنبية التي تتناول أنظمة الحكم في المنطقة العربية، وكالعادة لم تخلُ هذه الكتب من التحامل والتحليل السطحي، إذ يكرر كُتّاب الغرب مزاعمهم بأن "دول الخليج مجرد "مشيخات" ستنهار مع أول اختبار ديمقراطي"، متجاهلين أن التجارب الفاشلة في فرض الديمقراطية على بعض المجتمعات غير المهيّأة لها والتي لها طبيعة خاصة أثبتت عكس ذلك.
اعتقدت أن مقولة تشرشل "الديمقراطية أفضل الأنظمة السيئة" كانت مجرد سخرية، لكن الكاتب العراقي فلاح مشعل أكد ذلك عند حديثه عن تجربة العراق في التحول من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، حيث لم تحقق الأخيرة الاستقرار، بل عمّ الفساد وصعدت قوى طائفية تتحكم بمصير البلاد، أما المفكر النمساوي هانز هيرمان هوبا، فقد وصف الديمقراطية بأنها مجرد وهم تستخدمه النخب لشرعنة قراراتها، بينما تظل السلطة الفعلية بيد من يمتلك النفوذ والمال.
خذوا الولايات المتحدة مثالاً، حيث لا تتغير مراكز النفوذ الحقيقية مع تغير الرؤساء، إذ تسيطر عليها "الدولة العميقة"، وهي شبكة من المصالح التجارية واللوبيات التي تحدد السياسات لخدمة أجنداتها، لكن حتى هذه "الدولة العميقة" لم تستطع احتواء الظاهرة الترامبية، فترامب لا يرى العالم إلا بعيون رجل أعمال، يقلب القواعد التقليدية للحكم رأساً على عقب، مما أدى إلى تذبذب سياسات واشنطن الخارجية وفقدانها القدرة على ضبط مواقفها الدولية، فبينما أدار بايدن ملفات مثل حرب أوكرانيا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعلاقة مع الصين وفق نهج محدد، جاء ترامب ليقلب هذه الاستراتيجيات رأساً على عقب، متعاملاً مع الدول كأنها شركات قابلة لإعادة الهيكلة، مما يعكس هشاشة النموذج الديمقراطي في مواجهة المتغيّرات السياسية.
في المقابل نجد أن دول الخليج قد أثبتت أنها الأكثر استقراراً ونجاحاً في المنطقة، من خلال دبلوماسية فاعلة تُعزز موقعها كقوة سياسية مؤثرة، ففي البحرين وبرعاية سامية من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، انعقد مؤتمر الحوار الإسلامي بحضور أكثر من 400 شخصية، وعلى رأسهم شيخ الأزهر، في لقاء يسعى لتعزيز وحدة الصف الإسلامي والموقف من القضية الفلسطينية، بعيداً عن الشعارات الجوفاء، وفي الرياض تدعو السعودية لاستضافة مباحثات بين وروسيا وأوكرانيا لتخفيف التوتر العالمي، بينما تواصل الإمارات دعم الاستقرار الإقليمي وترفض الحلول الكارثية للقضية الفلسطينية، في حين تؤدي قطر دوراً محورياً في الوساطة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل لتحقيق تهدئة طويلة الأمد.
هذه التحركات ليست عشوائية، إنما هي انعكاس لرؤية سياسية بعيدة المدى، تُظهر أن دول الخليج لم تعد مجرد اقتصادات نفطية، بل قوى مؤثرة تملك مؤسسات حاكمة مستقرة ورؤية واضحة، على عكس الديمقراطيات الغربية التي تتخبط مع كل دورة انتخابية، فتتحول من قوة عالمية إلى ساحة صراعات داخلية، لقد أثبتت التجربة أن الاستقرار أكثر أهمية من الشعارات الديمقراطية، وبينما يحاول الغرب إعادة تعريف ديمقراطيته وسط أزماته الداخلية، ترسم دول الخليج مستقبلها بثبات، مؤكدة أن استقرارها أتى نتيجة نظام حكم فريد من نوعه أثبت كفاءته في عالم متغير.
0 تعليق