‏فن الصفقة شيء والمفاوضات الدبلوماسية شيء آخر‏

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

‏دانيال وارنر* - (كاونتربنش) 7/3/2025
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 

يواصل الرئيس ترامب التباهي بقدرته على عقد الصفقات. وسواء كان الأمر يتعلق بالتعريفات الجمركية، أو الحصول على حقوق استغلال المعادن- أو حتى إنهاء النزاعات، فإنه يعود دائمًا إلى خبرته في عقد الصفقات بالتحديد. وقال عن ذلك: "لقد تحدثت إلى الرئيس بوتين، وجماعتي يتعاملون معه باستمرار- مع جماعته على وجه الخصوص- وهم يريدون أن يفعلوا شيئًا". وتفاخر في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: "أعني، هذا ما أفعله. أنا أبرم الصفقات. حياتي كلها صفقات. يعني أن كل ما أعرفه هو الصفقات. وأنا أعرف متى يريد شخص ما أن يبرمها وعندما لا يريد ذلك".‏اضافة اعلان
‏يتلخص افتراضه، وأساس سياسات المعاملات، في أن الصفقات التجارية والصفقات الدبلوماسية متشابهة. وكما روى فينتان أوتول في مجلة "‏‏نيويوركر"، فإنه "بالحديث عن غرينلاند بعد نهاية فترة ولايته الأولى، يتذكر ترامب:"قلت، لماذا لا تكون لدينا هذه؟ إنكَ تلقي نظرة على خريطة؛ أنا مطور عقاري، وأنا أنظر إلى زاوية، وأقول، يجب أن أحصل على هذا المتجر للمبنى الذي أقوم ببنائه، وما إلى ذلك". وهكذا، إذا كان الأمر يتعلق بغرينلاند، أو كندا، أو بنما، أو حتى غزة، فإن دونالد ترامب ينظر إلى العالم من نفس المنظور، كمطور عقاري.‏
لكن الصفقات التجارية والمفاوضات الدبلوماسية ليستا الشيء نفسه. الصفقات التجارية تنطوي على دولارات وسنتات. والمفاوضات الدبلوماسية تشمل البلدان والمواطنين. وغالبًا ما تكون الصفقات التجارية معاملات لمرة واحدة. وتستند المفاوضات الدبلوماسية إلى علاقات تاريخية لها تداعيات دولية. وتتضمن الصفقات التجارية نتائج تظهر على جدول بيانات. وتشمل المفاوضات الدبلوماسية مكانة وهيبة وطنية لا يمكن قياسها كميًا.‏
‏دعونا نلقي نظرة على العلاقات الحالية بين الولايات المتحدة وروسيا. يتطلع ترامب إلى إبرام صفقات تجارية مع روسيا وأوكرانيا بشأن المعادن الأرضية النادرة. ومن أجل القيام بذلك، يعمد إلى تجاهل الدعم السياسي والعسكري والمالي الأميركي التاريخي لأوكرانيا، والحقيقة الواضحة المتمثلة في أن روسيا انتهكت القانون الدولي عندما غزت أوكرانيا. ولعل أحد الأمثلة المذهلة على تحريف الدبلوماسية واختزالها إلى مجرد إبرام صفقات كان تصويت الولايات المتحدة مع روسيا على قرار في "الجمعية العامة للأمم المتحدة"، في عكس دراماتيكي لوجهة السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ بداية الحرب الباردة.‏ من الواضح أن ترامب يفضل إبرام الصفقات التجارية على دعم التحالفات الدبلوماسية التاريخية.
كيف يتجلى هذا التحول التكتوني في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا؟ على المستوى العسكري، أمر وزير الدفاع الأميركي، بيت هيغسيث، بوقف العمليات السيبرانية الهجومية ضد روسيا. ويقال إن هذا الإجراء يشكل جزءًا من إعادة تقييم أعمق لجميع العمليات الأميركية ضد ما أصبح يُعتبر الآن خصمًا سابقًا. ومن الناحية السياسية، يغير بعض السياسيين التقليديين المناهضين لروسيا في الحزب الجمهوري، مثل السناتور ليندسي غراهام من ساوث كارولينا، لهجتهم بحيث تتكيف مع موقف ترامب المؤيد لروسيا.‏
في ما يتعلق بإدارة بيروقراطية حكومية كما يُدار عمل تجاري، أعطى ترامب أيضًا سلطة لملياردير التكنولوجيا، إيلون ماسك، للتدخل في المجال العام، كما لو أنه يتعامل مع موظفين في شركاته. (من الجدير التذكير بأن ماسك كان أول شخص يتحدث بعد ترامب في اجتماع مجلس الوزراء الأخير). وعندما يسأل ماسك الموظفين الفيدراليين عما فعلوه في الأسبوع السابق، فإنه يستخدم معايير خاصة بتقييم العمل في الشركات ويطبقها على جهاز الخدمة العامة. وقد تتطلب مفاوضات للسلام، على سبيل المثال، سنوات من تدابير بناء الثقة قبل أن يوقع ممثلو كلا الجانبين على اتفاق نهائي. وقد حدث الانفجار في المكتب البيضاوي بين ترامب وجي دي فانس وزيلينسكي لأنه لم يتم التوصل إلى الترتيبات النهائية بشأن اتفاقيات المعادن والضمانات الأمنية قبل أن تبدأ الكاميرات في الدوران، وهذا مثال صارخ على دبلوماسية الهواة المرتجلة.‏
كيف نبني الثقة بالدبلوماسية؟ على مدى سنوات عديدة حضرت سلسلة من الاجتماعات التي كانت تُعقد في فندق راقٍ في زيورخ. تحت رعاية دبلوماسي سويسري لامع، ثيودور وينكلر، أمضى ممثلون رفيعو المستوى من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وقتًا معاً للتعرف على بعضهم البعض وعرض مواقف بلدانهم. لم يتم التوقيع على أي معاهدة. ولم يتم الاتفاق على أي مذكرة تفاهم. ومع ذلك، تم تأسيس الثقة بين المشاركين. ولا يمكن للمرء أن يقيس ما أدت إليه الثقة؛ لقد أدت بالتأكيد إلى تحسين العلاقات الشخصية وإلى تحقيق فهم أفضل لموقف كل بلد.‏
‏للأسف، قام بعض البيروقراطيين السويسريين بوقف هذه الاجتماعيات، كما أفترض، الذين لم يروا أي نتيجة مباشرة للكيفية التي يتم بها إنفاق أموال دافعي الضرائب السويسريين. من دون سبب ضروري ولا نتيجة ضرورية، يشار إلى أن أول لقاء بين الأميركيين والروس منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022 قد عقد في المملكة العربية السعودية. لماذا ليس في جنيف حيث عُقدت قمة بايدن/ بوتين في العام 2021 واجتماع ريغان/ غورباتشوف التاريخي في العام 1985؟ كيف يمكن للمرء أن يقيس بالسنتيمتر والفرنك قيمة بناء الثقة بين الناس والبلدان بمرور الوقت؟‏
من المؤكد أن صناعة دونالد للصفقات لا علاقة لها بالثقة والاطمئنان. إن الأمر كله يتعلق بالقوة والخوف. وما يقوم به ترامب الآن هو "هز" الرئيس زيلينسكي والضغط عليه لتوقيع صفقة معادن. وعلى طريقة زعيم في المافيا يقوم بتهديد شركاء الناتو بتدفيعهم المزيد من المال خوفًا من انسحاب الولايات المتحدة.‏
‏ثمة اختلافات كبيرة بين إبرام الصفقات بدافع الخوف والتسويات الدبلوماسية التفاوضية المبنية على الاطمئنان والثقة. إن الخوف حالة مؤقتة. وما يخشاه المرء ذات يوم يمكن أن يؤدي إلى الانتقام أو الرد بالمثل في اليوم التالي. أما الثقة فتدوم طويلاً. ربما يُجبر ترامب زيلينسكي على توقيع بعض الصفقات، لكن أي ثقة كانت موجودة بين الاثنين تم تقويضها.‏
‏وستكون لهذا عواقب على حلفاء الولايات المتحدة التقليديين أيضًا. كيف يمكن للمرء أن يثق في رئيس يصوت مع روسيا وكوريا الشمالية في الأمم المتحدة ضد حلفائه الأوروبيين؟ إذا استمر ترامب في أن يكون معاملاتيًا على طريقة المعاملات التجارية، فإنه يخاطر بفقدان ثقة أولئك الذين كانوا تاريخيًا مع الولايات المتحدة. على عكس حماس ترامب تجاه روسيا، كان الرئيس ماكرون محقًا في الإشارة إلى أنه "في العام 2014، كان لدينا وقف لإطلاق النار مع روسيا... وتم انتهاكه في كل مرة"، مضيفًا أن أي اتفاق هدنة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يكون مدعومًا بضمانات أمنية. كان التصويت في الأمم المتحدة وتعليق المساعدات لأوكرانيا هما أحدث الأسباب التي تجعل حلفاء الولايات المتحدة وشركاءها التاريخيين يشعرون بالقلق إزاء ترامب.‏
اعتاد رونالد ريغان أن يقول "ثق، ولكن تحقق" في سياق مناقشات نزع السلاح النووي مع الاتحاد السوفياتي، وهو ما ينطبق الآن على حلفاء أميركا ودونالد ترامب. إن ترامب هو سيد فن الصفقة، ولكن ما يزال أمامه الكثير ليتعلمه عن الدبلوماسية والمفاوضات. لقد تمكن، في وقت قصير جدًا، من أن يضع موضع الشك سنوات من القيم المشتركة والتعاون. وليس هذا إنجازًا صغيرًا. إنه صفقة كبيرة جدًا في الحقيقة.‏

‏* دانيال وارنر Daniel Warner: مؤلف كتاب "‏‏أخلاقيات المسؤولية في العلاقات الدولية" An Ethic of Responsibility in International Relations‏‏. (لين رينر). يعيش في جنيف.‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Art of the Deal is Not a Diplomatic Negotiation

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق