الجمعة 21 مارس 2025
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
ملفات خاصة

"أيها الحبيب نادني كالأذان فأنا أشتاقُ إليك كالصلاة، أنت في كل الأشياء حولي في كل رؤية، في كل صوت لكنني لم أزل أذوب حنينًا إليك، إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح و إن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم أن كل ما تبحث عنه هو أنت".
مع الزمن يتحول الألم إلى حزن، ويتحول الحزن إلى صمت، ويتحول الصمت إلى وحدة ضخمة وشاسعة كالمحيطات المظلمة.
استغنِ يا ولدي فمن تَركَ مَلَكْ
من أرقى أنواع رفاهيّة الرّوح أن يكون انفرادك بنفسك هو متعتك الحقيقيّة، فمن لا يأنس بذاته لا يأنس بشيء آخر
كلُ نفسٍ ذائقةٌ الموت لكن ليست كل نفسٍ ذائقةٌ الحياة
مولانا جلال الدين الرومي
يُعد جلال الدين الرومي (٦٠٤هـ/١٢٠٧م - ٦٧٢هـ/١٢٧٣م) أحد أعظم شعراء الصوفية في التاريخ الإسلامي، حيث جمع في شخصيته بين العالم الفقيه والشاعر الملهم والعارف الصوفي. تجاوزت شهرته العالم الإسلامي، ليصبح رمزًا عالميًا للحكمة والمحبة الإلهية، حيث تُرجمت أشعاره إلى العديد من اللغات، ولا تزال تُلهم الباحثين والمريدين حتى اليوم.
النشأة والتكوين العلمي لجلال الدين الرومي
وُلِد جلال الدين محمد البلخي، المعروف لاحقًا باسم "الرومي"، في السادس من ربيع الأول عام ٦٠٤هـ/ ٣٠ سبتمبر ١٢٠٧م في مدينة بلخ، التي كانت آنذاك واحدة من أهم المراكز العلمية والثقافية في العالم الإسلامي. نشأ في بيئة علمية ودينية متميزة، حيث كان والده، بهاء الدين ولد، عالمًا بارزًا وصوفيًا معروفًا بلقب "سلطان العلماء". أثّرت هذه البيئة العلمية في نشأة الرومي، حيث تلقى تعليمه الأولي على يد والده، الذي كان يُدرّس الفقه والحديث والتفسير، إلى جانب إشرافه على حلقات التصوف التي جمعت بين الفقهاء والمريدين. (العطار، تذكرة الأولياء، ج٢، ص١٠٥)
عندما بدأ الاجتياح المغولي بقيادة جنكيز خان يهدد منطقة ما وراء النهر في أوائل القرن السابع الهجري، اضطر بهاء الدين ولد إلى الهجرة مع أسرته بحثًا عن الأمان. مرّوا بعدة مدن كنيشابور، حيث التقى الرومي الشاعر الصوفي فريد الدين العطار، الذي أهداه كتابه الشهير أسرار نامه، وقال عنه: "سيشعل هذا الفتى نار العشق في العالم". ثم انتقلوا إلى بغداد ومنها إلى الحجاز لأداء الحج، قبل أن يستقروا في النهاية في قونية، إحدى مدن الأناضول التي كانت آنذاك تحت حكم السلاجقة، والذين رحّبوا بالعائلة ومنحوهم الحماية والتقدير. (سبهسالار، مناقب العارفين، ص٨٨)
في قونية، واصل الرومي تعليمه العالي، حيث درس العلوم الشرعية والفلسفة والتصوف على يد كبار العلماء في ذلك العصر. كان من أبرز أساتذته برهان الدين الترمذي، الذي أكمل تعليمه بعد وفاة والده، ووجّهه نحو التصوف العملي، حيث تعلّم أهمية الذكر والمجاهدة الروحية. كما تأثر الرومي بالفكر الفلسفي الإسلامي، لا سيما من خلال دراسته لابن سينا والغزالي، ما ساعده في الجمع بين العقلانية الصوفية والعشق الروحي في رؤيته للعالم. (الأفلاكي، مناقب العارفين، ج١، ص١٩٠)
ورغم أن الرومي بدأ حياته كفقيه وعالم شريعة يحظى باحترام واسع، إلا أنه وجد في التصوف طريقًا أوسع للوصول إلى الحقيقة الإلهية. كانت قونية مركزًا فكريًا نابضًا بالحياة، حيث تفاعل مع تيارات مختلفة من الفقهاء والصوفية والفلاسفة، مما ساعده على تطوير نهجه الفريد في الجمع بين العلم والتصوف. لكن التحوّل الجذري في مسيرته الفكرية لم يأتِ إلا بعد لقائه بشمس التبريزي، الرجل الذي أشعل فيه جذوة العشق الإلهي وحوّله من فقيه إلى شاعر العشق الصوفي الخالد. (شبستري، جواهر الأسرار، ص٤٥)
التحول الصوفي ولقاؤه بشمس التبريزي
كان لقاء جلال الدين الرومي بالمتصوف الغامض شمس الدين التبريزي في عام ٦٤٢هـ/١٢٤٤م نقطة تحوّل محورية في حياته، حيث غيّر مجرى فكره وروحه تغييرًا جذريًا. قبل لقائه بشمس، كان الرومي فقيهًا بارزًا وعالمًا يحظى بمكانة مرموقة في قونية، يدرّس الشريعة والفقه ويتصدر مجالس العلم. إلا أن شمس التبريزي، الذي وُصف بأنه صوفي جوّال يمتلك علمًا باطنيًا وتجربة روحانية فريدة، دخل حياة الرومي بصورة مفاجئة، وأشعل فيه نار العشق الإلهي، فحوّله من فقيه تقليدي إلى شاعر وروح متوهجة بحب المطلق. (الأفلاكي، مناقب العارفين، ج١، ص٣٢٠)
كان اللقاء الأول بينهما مليئًا بالدلالات الروحية، إذ يُقال إن شمس سأل الرومي سؤالًا زعزع كيانه: "من الأعظم، النبي محمد أم بايزيد البسطامي؟" فأجابه الرومي بأن النبي لا يُقارن بأحد، لكن شمس أوضح أن بايزيد كان يعلن وصوله إلى مقام الاكتفاء بقوله "سبحاني"، بينما النبي كان دائم التضرع لله قائلاً "ما عرفناك حق معرفتك". أدرك الرومي من هذا الحوار أن المعرفة الحقيقية ليست في الفقه الظاهري وحده، بل في التجربة الروحية العميقة التي تجعل العارف ذائبًا في الحب الإلهي. منذ تلك اللحظة، أصبح شمس مرشدًا روحيًا للرومي، وأخذ بيده إلى عوالم التصوف العشقي، مما جعله ينغمس في الذكر والموسيقى والشعر تعبيرًا عن حالاته الروحية الجديدة. (شبستري، جواهر الأسرار، ص٧٧)
أثار هذا التحوّل العميق استغراب أتباع الرومي وتلاميذه، الذين لم يفهموا سر العلاقة التي جمعت شيخهم الوقور بذلك الصوفي الجوال. فقد انشغل الرومي تمامًا بشمس، وقضى معه أيامًا وليالي في خلوات روحية، ما أثار غيرة بعض أتباعه، الذين رأوا أن شمس اختطف شيخهم وأبعده عن التدريس والتعليم. لم يقتصر الأمر على الغيرة فحسب، بل تصاعدت التوترات، مما دفع شمس إلى مغادرة قونية فجأة. لكن الرومي لم يحتمل فراقه، فانغمس في حالة من الشوق واللوعة، حتى إنه أرسل ابنه للبحث عنه وإعادته. عاد شمس بالفعل لفترة قصيرة، لكن الاختلافات لم تهدأ، وفي النهاية اختفى شمس في ظروف غامضة عام ٦٤٥هـ/١٢٤٧م، وهناك روايات تشير إلى أنه قُتل بتحريض من بعض خصومه. (سبهسالار، مناقب العارفين، ص٢٣٠)
أدى فقدان شمس إلى تحول الرومي إلى حالة من الانجذاب الصوفي العميق، فوجد في الشعر والموسيقى والدوران الصوفي وسيلة للتعبير عن وجده وشوقه. كتب ديوانًا ضخمًا يحمل اسم "ديوان شمس التبريزي"، الذي يعدّ من أعظم ما كُتب في الشعر الصوفي، حيث امتلأ بالمعاني العشقية التي تجاوزت الحب البشري إلى العشق الإلهي الخالص. كما أسس الرومي لاحقًا الطريقة المولوية، التي أصبح فيها السماع والدوران وسيلة للوصول إلى النشوة الروحية والتجربة العرفانية. (نيكلسون، شمس الدين التبريزي والرومي، ص١٥٥)
شعره وفلسفته في الحب الإلهي
يُعد ديوان "المثنوي المعنوي" من أعظم الأعمال الصوفية التي قدّمها جلال الدين الرومي، وهو بمثابة ملحمة روحية تمزج بين الحكمة والتجربة العرفانية في قالب شعري بديع. يعبّر الرومي في هذا العمل عن فلسفته في الحب الإلهي، حيث يرى أن الحب هو القوة المحركة للكون، وهو السبيل الوحيد للوصول إلى الله. فبالنسبة له، الحب ليس مجرد شعور، بل هو طريق صوفي يُفضي إلى الفناء في الله والبقاء به.
(الرومي، ديوان شمس التبريزي، ج١، ص٢٤).
يرى الرومي أن كل إنسان يحمل في داخله شعلة من نور الله، وأن الروح البشرية تنتمي إلى العالم العلوي، لكنها هبطت إلى الأرض بفعل الجسد والمادة. لذلك، فإن الحب الإلهي هو القوة التي تدفع الإنسان للعودة إلى أصله النوراني، تمامًا كما يحنّ الطائر إلى عشه. في هذا السياق، يستخدم الرومي الرموز والأساطير، مثل قصة الناي الذي يُبكيه فراق الغابة، ليعبر عن شوق الروح للعودة إلى أصلها الإلهي. يقول في مقدمة المثنوي:
"استمع للناي يحكي قصة فراقه،
وكيف يذرف الدموع شوقًا إلى أصله"
(الرومي، المثنوي المعنوي، ج١، ص٣).
الحب عند الرومي ليس مجرد علاقة وجدانية، بل هو تحوّل داخلي يقود الإنسان إلى التسامي فوق ذاته الضيقة. فالإنسان المحب، بحسب رؤيته، يتحرر من قيود الأنا والمادية، ليصبح كائنًا روحيًا يعيش في حالة دائمة من العشق والسكر الصوفي. في هذا الإطار، استعار الرومي رموزًا جريئة مثل الخمر والسُكر والمجنون والعاشق، ليعبّر عن حالة الوجد والانجذاب التي يصل إليها الصوفي في رحلته نحو الله. هذه الرمزية العميقة جعلت شعره موضع جدل بين الفقهاء، لكنه وجد قبولًا واسعًا بين العارفين الذين رأوا فيه تعبيرًا عن التجربة الصوفية في أنقى صورها. (نيكلسون، فلسفة التصوف عند الرومي، ص١١٢).
لقد تجاوزت فلسفة الحب عند الرومي حدود الثقافات والديانات، إذ وجد فيها الناس من مختلف الخلفيات الروحية تعبيرًا عن الشوق الإنساني العميق للحقيقة الإلهية. ترجم شعره إلى العديد من اللغات، وتأثر به مفكرون وأدباء في الشرق والغرب، مثل جوته في ألمانيا وإمرسون في أمريكا. وقد أصبحت طريقته في الحب والعشق الإلهي مصدر إلهام للحركات الصوفية، لا سيما الطريقة المولوية، التي اعتمدت على السماع والدوران كوسيلة للوصول إلى الاتحاد بالحقيقة الإلهية. (شمس الدين، الرومي بين الفلسفة والتصوف، ص٨٩).
الرقص الصوفي وتأسيس الطريقة المولوية
يُعد السماع الصوفي من أبرز الطقوس الروحية التي ارتبطت بجلال الدين الرومي، حيث لم يكن مجرد رقصة، بل تجربة روحية عميقة تسعى إلى تحقيق الاندماج مع الحقيقة الإلهية. استلهم الرومي هذه الطقوس من مفهوم الدوران الكوني، إذ كان يرى أن كل شيء في الكون، من أصغر الذرات إلى الكواكب والنجوم، يتحرك في دائرة تعبيرًا عن نظام إلهي مقدّس. بناءً على ذلك، جعل الدوران الصوفي وسيلة للتعبير عن شوق الروح للعودة إلى أصلها، حيث يصبح الصوفي في حال من الفناء التام في الله. يقول الرومي في هذا الصدد:
"من لم يذق طعم العشق، فلن يفهم سرّ دوران الفلك"
(الرومي، المثنوي المعنوي، ج٢، ص٤٥).
بدأ السماع كحالة وجدانية خاصة بالرومي، إذ يُروى أنه ذات يوم كان يسير في شوارع قونية حين سمع طرقات الحدادين على المعادن، فشعر أنها تتناغم مع نغمات داخلية في قلبه، مما دفعه إلى الدوران حول نفسه في نشوة روحية عميقة. تحوّلت هذه التجربة الفردية لاحقًا إلى طقس صوفي منتظم، أصبح جزءًا من العبادة في الطريقة المولوية، حيث يؤدي الدراويش دورانهم في حلقات متناسقة، مرتدين أزياءً رمزية تعكس رحلتهم الروحية:
القبعة الطويلة (السikke): تمثل شاهد القبر، في إشارة إلى موت الذات القديمة وبعث الذات الروحية.
الرداء الأسود: يرمز إلى الدنيا والمادية، ويتم خلعه عند بداية السماع دلالة على التجرد من الأنا.
التنورة البيضاء: ترمز إلى النقاء الروحي، حيث يصبح الدرويش في حالة تصاعد نحو الحق.
لم تكن هذه الطقوس مجرد تعبير فني، بل كانت طريقة للوصول إلى الحقيقة الإلهية، حيث يرى المولوية أن الإنسان يجب أن يتجاوز ذاته ليصل إلى مقام الفناء، وهو ما يعبّر عنه دوران الدراويش حول مركز ثابت، تمامًا كما تدور الكواكب حول الشمس. وقد وصف الرومي هذه الحالة في أبياته قائلًا:
"عندما تدور، تذكّر أن كل شيء في الكون يرقص، فاندمج في الإيقاع، واترك ذاتك تتحرر" (الرومي، ديوان شمس التبريزي، ج٣، ص٨٧).
مع مرور الوقت، تحوّلت هذه الطقوس إلى أساس الطريقة المولوية، التي أسّسها تلاميذ الرومي بعد وفاته، وانتشرت في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في تركيا، حيث أصبحت جزءًا من التراث الصوفي والثقافي. وعلى الرغم من محاولات بعض السلطات السياسية حظرها، استمرت المولوية في أداء طقوسها حتى يومنا هذا، حيث لا يزال السماع الصوفي يجذب الباحثين عن الروحانية من مختلف الثقافات، ويُعتبر أحد أكثر مظاهر التصوف تأثيرًا في الفن والفكر الصوفي العالمي. (شمس الدين، الرومي بين الفلسفة والتصوف، ص١٢٣).
آراء العلماء في جلال الدين الرومي
أثارت أفكار جلال الدين الرومي جدلًا واسعًا بين العلماء والمفكرين، حيث انقسمت الآراء حوله بين من رأى فيه شاعرًا روحانيًا عظيمًا نقل التصوف إلى آفاق جديدة، وبين من رأى في كتاباته تجاوزات عقدية تتعارض مع تعاليم الإسلام. ومن أبرز الذين انتقدوه البدر العيني (ت. ٨٥٥هـ)، شارح صحيح البخاري، الذي قال عنه: "ألّف كتابًا وسماه المثنوي، وفيه كثير مما يردُّه الشرع والسنة المطهرة، وضلّت بسببه طائفة كثيرة، ولا سيما أهل الروم" [(العيني، عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان، ص ١٢٩)]. وهذا يشير إلى المخاوف التي عبّر عنها بعض العلماء من تأثير أفكار الرومي في أتباعه، خاصة فيما يتعلق بمسائل وحدة الوجود والعشق الإلهي.
يرى منتقدو الرومي أن بعض أشعاره وكتاباته، مثل "المثنوي"، تتضمن إشارات إلى وحدة الوجود التي قال بها بعض المتصوفة، والتي قد تُفهم على أنها تماهٍ بين الخالق والمخلوق، وهو ما اعتبره البعض منافياً للعقيدة الإسلامية. كما أن استخدامه لغة العشق والخمر والرقص الصوفي أثار اعتراض بعض الفقهاء الذين اعتبروا أن هذا الأسلوب قد يؤدي إلى تأويلات خاطئة، لا تتفق مع روح التوحيد الإسلامي. ومن هنا، نشأ الجدل حول ما إذا كان الرومي ينقل معرفة روحية مشروعة أم أنه يُلبس الحق بالباطل.
على الجانب الآخر، دافع بعض العلماء والصوفية عن الرومي، معتبرين أن انتقاداته لم تكن موجهة إلى العقيدة الإسلامية، بل إلى الجمود الفكري الذي ساد في بعض الأوساط الدينية. كما رأوا أن استخدامه لغة الرموز كان وسيلة لإيصال المعاني الصوفية العميقة التي لا يمكن التعبير عنها باللغة التقليدية. ومن هذا المنظور، اعتُبر المثنوي مرجعًا روحيًا كبيرًا، يعبّر عن تجربة صوفية لا يمكن فهمها بمعايير الفقه الظاهري وحده.
ومع ذلك، فإن الجدل حول الرومي لا يزال قائمًا حتى اليوم، حيث يراه البعض فيلسوفًا روحيًا أسهم في نشر التصوف العالمي، بينما يراه آخرون شخصًا انحرف عن التعاليم الإسلامية الصحيحة. ومن هنا، يبقى تقييم أفكاره مرهونًا بطريقة قراءتها وفهم سياقها الصوفي، خاصةً وأن تراثه الفكري ظل مؤثرًا عبر القرون، سواء في العالم الإسلامي أو الغربي.
الإرث والتأثير العالمي
بعد وفاة جلال الدين الرومي عام ١٢٧٣م، لم يتوقف تأثيره، بل امتد ليصبح أحد أكثر الشخصيات الصوفية تأثيرًا في التاريخ الإسلامي والعالمي. فقد واصل أتباعه نشر تعاليمه الصوفية من خلال الطريقة المولوية، التي أصبحت واحدة من أشهر الطرق الصوفية في العالم الإسلامي. لم يكن هذا التأثير مقتصرًا على المجال الديني فحسب، بل امتد إلى الأدب والفكر والفن، حيث أصبحت أعماله، وخاصة "المثنوي" و"ديوان شمس التبريزي"، مرجعًا أساسيًا للباحثين في التصوف. وقد وصفه المستشرق البريطاني رينيه جينون بأنه "أحد أعظم حكماء الشرق الذين استطاعوا التعبير عن الروحانية الصافية في أبهى صورها" (غينون، رمزية الصوفية الإسلامية، ص١١٢).
في العالم الإسلامي، ظلّ الرومي حاضرًا بقوة، إذ تُدرَّس أعماله في العديد من المعاهد والجامعات، ويُنظر إليه كأحد أعمدة التصوف الفلسفي، الذي استطاع تقديم رؤية شمولية تجمع بين المحبة الإلهية والحكمة الإنسانية. كما أصبحت طقوس السماع الصوفي التي أسسها جزءًا من التراث الصوفي في تركيا وإيران وأفغانستان وسوريا، حيث تُمارَس بشكل منتظم في تكايا الدراويش. حتى في الفنون الإسلامية، استلهم العديد من الفنانين والرسامين والموسيقيين أعمالهم من رمزية شعره وتعاليمه الروحية، مما جعل تأثيره يتجاوز حدود الفكر الصوفي التقليدي.
أما في الغرب، فقد بدأ الاهتمام بشعر الرومي في القرن التاسع عشر، لكنه بلغ ذروته في العقود الأخيرة، حيث تُرجم شعره إلى أكثر من ٤٠ لغة، وأصبح من أكثر الشعراء الروحانيين قراءةً في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد أشاد به رالف والدو إمرسون، أحد رموز الفلسفة المتعالية في أمريكا، قائلًا: "الرومي يتحدث لغةً لا تفنى، إنه شاعر للإنسانية جمعاء" (إمرسون، محاضرات في الروحانية، ص٧٨). كما شهدت السنوات الأخيرة صدور العديد من الكتب حول فلسفته، وأصبح من أبرز الشخصيات التي تستلهمها الحركات الروحانية الحديثة.
إضافةً إلى ذلك، انتشرت اقتباسات الرومي على نطاق واسع في وسائل الإعلام والموسيقى والأفلام، حيث يُنظر إليه باعتباره شاعرًا عالميًا للحب الإلهي والإنساني. وفي عام ٢٠٠٧، أعلنت اليونسكو عام "جلال الدين الرومي" تكريمًا لإرثه الثقافي والإنساني، مشيدةً بقدرته على "دمج الثقافات المختلفة في رسالة عالمية تدعو إلى الحب والسلام" (اليونسكو، التقرير الثقافي السنوي، ٢٠٠٧). وهكذا، فإن تأثير الرومي لا يزال ممتدًا في الفكر العالمي، حيث يشكّل جسرًا بين الشرق والغرب، وبين التصوف الإسلامي والفلسفات الروحانية المختلفة.
خاتمة
لم يكن جلال الدين الرومي مجرد شاعر أو صوفي عابر في التاريخ، بل كان رمزًا عالميًا للفكر الروحي، استطاع أن يتجاوز الحواجز الدينية والثقافية، ناشرًا رسالة الحب الإلهي والتسامح. لقد امتزجت في فلسفته أعمق معاني التصوف مع تجربة عشق روحي فريدة، جعلت من كلماته مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة. لم يكن شعره مجرد تعبير عن وجد صوفي، بل كان دعوة إلى معرفة الذات والاندماج في المطلق، حيث قدّم رؤية توحيدية تذيب الفوارق بين البشر، وترى أن الحب هو الجسر الحقيقي بين الإنسان والخالق.
ظلّت تعاليم الرومي حية على مر العصور، إذ أثرت في مدارس التصوف المختلفة، وأصبحت الطريقة المولوية التي أسسها واحدة من أبرز الطرق الصوفية في العالم الإسلامي. كما استمر ديوانه "المثنوي" في كونه مرجعًا أساسيًا لفهم الفكر الصوفي، ودرس الباحثون رؤاه حول التسامح والتعايش الإنساني، ما جعل فكره أكثر ارتباطًا بقضايا العصر الحديث. ولم يتوقف تأثيره عند حدود الفكر الإسلامي، بل امتد إلى الثقافات الغربية، حيث احتل مكانة بارزة في الأدب والفكر الروحاني، وظلّت أشعاره تُتداول بلغات مختلفة، شاهدةً على عالمية رسالته.
في عصرنا الحالي، يُعد الرومي من أكثر الشخصيات الصوفية تأثيرًا، حيث تُستلهم كلماته في مجالات الفلسفة والفن والموسيقى وحتى العلاج الروحي. كما احتفى به المجتمع الدولي، إذ خصصت اليونسكو عامًا لتكريمه، اعترافًا بدوره في تعزيز الحوار بين الثقافات. ورغم مرور أكثر من سبعة قرون على وفاته، فإن كلماته لا تزال تضيء درب الباحثين عن الحقيقة، وتجسد جمال التصوف الإسلامي في أرقى صوره، حيث الحب هو اللغة الوحيدة القادرة على جمع البشرية في وحدة متناغمة.
0 تعليق