غزة مرارة أخرى

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

غزّة مرّة أخرى، تعود مشاهد القتل والتنكيل والتخريب والاستباحة، بفعل فتوّة العالم الجديد، بفعل صفاقة عربدة وجهاء الكون، بفعل وأْد آخر رمق الإنسانيّة الواهمة، بفعل اختلال صارخ فـي ميزان العدالة الإنسانيّة. الإنسانيّة! عن أيّ إنسانيّة يمكن أن نتحدّث اليوم؟ سيذْكرنا التّاريخ بأشنع ما لديه من صفات فـي مقْبل الزّمان، هل الإنسانيّة أن يقف العالم الحاكم الأقوى مع جدار ينهدّ فـي كييف، ومع شرفة تتصدّع، فـيتعالى الصّراخ، وتضخّ الأموال ويصطفّ رؤوس الكون متباكين، صارخين، داعين إلى إنقاذ الإنسانيّة من بطش الحرب القاتلة، وأن يصْرف العين ويغضّ البصر، ويدعو بلطف واحتشام إلى التحكّم فـي النفس أمام مشاهد الأطفال العراة الذين يذبّحون بالمئات يوميّا، ويجوّعون ويعطّشون وتستباح كرامتهم كلّ رمشة عين؟ تتحرّك دكّة غسل الموتى -على قول مظفّر- وهذا العالم الإنسانيّ جدّا لا يهتزّ له طرف، فما الذي يعنيه من كلّ هذا؟ وقد بان التمايز صارخا بين النحن والهم، همّ يجمعنا، وأخشى أن نلتفت يوما ما بعد سباتنا الدغمائيّ القاتل وأن نقول أكلنا يوم أكل ذاك الثور.

بعيدا عن حسّ المظلوميّة، وعن انتصارنا اللاّمشروط لقضيّتنا القضيّة الفلسطينيّة، وبعيدا عن بكائيّات المظلوميّة وعن حسّ الدونيّة الذي نشعر به دوْما، فإنّ أفقا للدّلالة ينفتح فـي هذا العالم الجديد، أفق من الدّلالة قوامه إعادة توزيع لثنائيّات: الظالم- المظلوم، المستعْمر- المستعْمر، الجلاّد - الضحيّة، القويّ- الضعيف، الحرب- السلم. جملة من الثنائيّات التي تحتاج إلى إعادة شحن بدلالات جديدة، فالعدْل اليوم هو عدْل القويّ، وفق منظوره تتحدّد سيميائيّة «القيم»، ويتحدّد الظالم والمظلوم، والضحيّة والجلاّد.

وفق هذه السيميائيّة الجديدة، الفلسطينيّون هم الجلاّدون، هم القتلة، والكيان الإسرائيليّ هو الضحيّة، لأنّه القويّ والقادر على امتلاك حكّام الكون، وكسب مناصرتهم، فهو قادر على تسويق سرديّته لأولي النفاذ ولأصحاب الرأي الفاعل، سرديّته غير مقنعة، وغير منطقيّة وغير متقبّلة، غير أنّها نافذة، وجارية.

اليوم نعود فـي آخر شهر رمضان المبارك، والشعوب الإسلاميّة تعيش شهرا من العبادة فـي الأصل، وشهرا من تمتيع البطن والنظر فـي التداول والفعل، الشعوب الإسلاميّة لم تهنأ بشهرها صياما وقياما وأكلا وشرْبا وهدهدة فـيضان من الأعْمال الدراميّة (التي لم تكن القضيّة الفلسطينيّة حاضرة فـي أغلبها، حتّى وإن كانت إشارة)، بل نكّد عليها العدوّ الإسرائيليّ بمشاهد القتل والذبح والتدمير اليوميّ، فهل أنّ هذا الكيان بكلّ هذا الغباء الوجوديّ، ليعادي أصدقاءه من العرب والمسلمين من جهة، وليجعل صورته فـي الكون صورة مصّاص الدّماء، الرّاغب فـي التقتيل وإسالة أنهار من دماء الأطفال والنّساء والعجّز؟ هل هو بهذا الغباء ليعلن أمام الكون صورة الطاغية الضّارب بالأعراف الدوليّة وبقوانين حقوق الإنسان عرض الحائط؟ لا أعتقد ذلك، الكيان المغتصب اليوم يستند إلى فكرة طالما نظّر لها الغرب، ولعلّها بلغت أوْجها تحقيقا، هي فكرة الإنسان الأسمى، أو الإنسان الأقوى، الذي يكون معه الحقّ دوما، لهذا فإنّ مشهدا فـي سياسة الخطاب ساد فـي المدّة الأخيرة، لا يبين عن الكيْل بمكيالين، أو عن تحمّل الغرب القادر لرؤية تمييزيّة فحسب، بل هو مبين عن تسييد خطاب القويّ وتغليبه، فهنالك وسيط أمريكيّ فـي قضيّتين، القضيّة الأوكرانيّة من جهة، والقضيّة الفلسطينيّة من جهة ثانية، فـي القضيّة الأوكرانيّة وقف الوسيط الأمريكي مع توازن القوى، وبالرّغم من رفض المقترح الأمريكي للسّلم الذي يسلب أوكرانيا التصرّف فـي مدّخرات من المعادن ثمينة، وبالرّغم من شدّة العراك بين الرأسين، الأوكراني والأمريكي الوسيط، فإنّ روسيا لم تقم بإبادة الشعب الأوكراني لتعثّر خطاب المصالحة بين المتنازعيْن، فـي حين فـي النّاحية المقابلة، هنالك خطاب جدير بالدّراسة فـي العلوم السياسيّة وفـي العلاقات الديبلوماسيّة، خطاب الوسيط الأمريكي الذي قوامه البحث عن أرض تأوي أهل غزّة بعد إكرامهم وتأمين خروجهم من أرضهم، فلا سبب ليبقوا فـي أرض نبتوا فـيها، وخطاب المصالحة يدعو إلى تنفـيذ مقترح السّلم! مقترح السّلم القائم على الاستسلام ومغادرة أرض يريدها القويّ، وعندما يرفض الفلسطينيّون خطاب الاستسلام، يشرّع الوسيط السلمي فتْح جهنّم على الفلسطينيين، ليؤسّس خطاب المصالحة لمعادلة لا يمكن أن يقبلها عقل، ولكنّها جائزة فـي السيميائيّة السياسيّة الجديدة، المعادلة قائمة على تخيير الفلسطينيين بين الاستسلام ومغادرة الأرض إلى مكان يعدّ لهم، أو إبادتهم! ومع انعدام وجود نصير للفلسطينيين، فإنّ حرْب الإبادة باقية وقائمة.

أمّا المعادلة فـي أوكرانيا فهي تحقيق المصالحة وتقديم الأجرة للوسيط بتحصيل المعادن المخزونة فـي أوكرانيا، وفـي كلتا الحالتين، فإنّ الوسيط الأمريكي القويّ، واقف مع الأقوى، وجاب للأموال من كافّة الجهات، والفارق بين المعادلتين، أنّ حرب أوكرانيا ليست حرب وجود ولا إبادة، ومع الأوكرانيين نصير قويّ، يضخّ العتاد والعباد، ومع الفلسطينيين ربّ كريم ينصر الشعب الذي يصنع مجْده من بقايا أسلحة العدوّ، ويقتات من الصّبْر والأمل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق