عقدة الكمال والبحث عن سراب المستحيل

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
أ.د. جهان العمران

نحن نعيش في عالم متعدد الوجوه، ومليء بالتناقضات، فهناك الفرح مقابل الحزن، والنجاح مقابل الفشل، والغنى مقابل الفقر، والصحة مقابل المرض. وكل منا له نصيب في الحياة فمنا من يملك المال، ولا يملك العلم، ومنا من يملك المال والعلم، ولكن لا يملك الذرية، ومنا من يملك كل هذا وذاك، ولكن لا يملك الصحة. إن الحياة أبعد ما تكون عن الكمال، فالكمال لله وحده.

ولكن نجد هناك بعض الأشخاص يعانون من عقدة الكمال «perfectionism»، فهم يفرضون توقعات عالية جداً لأنفسهم أو لغيرهم لا يمكن الوصول إليها، ودوماً يكررون على مسامعنا الكلمة السامة «ولكن». فإذا جاء طفل صغير إلى أمه ليريها رسماً قد أنجزه وهو فخور به فيكون رد فعلها أن تقول له» «إنه رسم جميل، ولكن ينقصه كذا وكذا»، فتزرع في نفسه البريئة بذور الشك وعدم الثقة. وإن تقدم عريس لإحدى الفتيات في سن الزواج لا بد أن تجد فيه عيباً ما، كأن تقول: «إنه شاب طيب ومتعلم، ولكنه من أسرة متواضعة»، أو «لكن بدين»، أو» لكن قصير»، إلى أن يفوتها قطار الزواج. والنزعة الكمالية لا تقتصر على تقييم الأشياء الخارجية، بل تمتد. إلى إنجاز المهام حيث لا ينجز الكمالي عملاً إلا بعد تأخيره مراراً وتكراراً خوفاً من ألا يكون مثالياً فيضيع الوقت عليه، حتى يرى الآخرين يصعدون قبله في سلم الترقيات على الرغم من أنه أكثر منهم قدرة وكفاءة، فالإتقان وحده لا يكفيه، بل ينشد الكمال وحده الذي يبقى في بحث مستمر عنه بلا جدوى. ونرى الكمالي -حتى في علاقاته الاجتماعية - يبحث عن «الصديق المثالي» الذي لا يخلو من عيب أو شعث فلا يجده أبداً، فهذا لئيم وذاك حسود، حتى يجد نفسه وحيداً دون أصدقاء.

وفي الحقيقة أن مثل هؤلاء لن يصلوا أبداً إلى أهدافهم لأن ليس لها وجود على أرض الواقع، فتكون النتيجة أن يجدوا أنفسهم يقعون في دوامة من التردد والتأجيل لما يودون تحقيقه لأنهم يخشون أن يكون أداؤهم غير كاف أو خياراتهم لا ترقى إلى المثالية، كما أنهم يرون عيوبهم وعيوب الآخرين تحت المجهر مما يؤدي إلى ضياع الفرص أمامهم، وتغدو حالهم كحال من يبحث عن شيء -كالسراب- لا وجود له. وهذه النزعة الكمالية لا تؤثر فقط على علاقاتهم الاجتماعية، وإنجازهم في عملهم، بل تمتد. إلى نظرتهم لأنفسهم بشكل سلبي، فيقعدون وهم يشعرون بالحسرة والندم والإحباط المستمر. لذا فلا عجب أن نجد أن العيادات النفسية تعج بهذا النوع من الأشخاص الكماليين.

إن النجاح في العلاقات الاجتماعية والإتقان في العمل لا يتحققان في الوصول إلى قمة وهمية تعشش في ذهن صاحبها فقط، وهي النزعة الكمالية، بل في الشعور بالرضا والقناعة بما نملكه ونحن نثبت أقدامنا على أرض الواقع، وأن نقبل أنفسنا كما نحن بمزايانا ونقائصنا، والتغاضي أحياناً عن عيوب الآخرين، وعن التفاصيل الدقيقة المتعبة، وأن نتقبل الخطأ، لأنه بصمة بشرية، وعلينا أن نعالجه بالاستفادة منه لتحسين أدائنا، وتطوير أنفسنا، ومن لا يخطئ لا ينمو ولا يتعلم، ومن ينتظر الكمال سيظل واقفاً في مكانه يراقب السراب وهو يظن أنه يقترب منه، بينما هو في الواقع يبتعد عنه أكثر فأكثر.

* أستاذة في علم النفس التربوي

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق