عندما تُقلّب دولاب جدتك تجد بين حاجياتها قطعاً فنية جميلة، فحقيبة اليد هذه طُبع عليها نسخة لرسمة فنان مشهور، وهذا الشال مشغول باليد بإتقان وجمال يحكي عن إبداع مَنْ طرّز هذا الشال بالخيوط الجميلة، وهذا الحذاء المصنوع من جلد التمساح والذي دبغ دباغة متقنة فلم يصبه العفن عشرات السنين ليبقى هذا الحذاء قطعة تحكي قصة صياد بطل قهر تمساحاً مفترساً وصنع من جلده حذاءً، فدولاب جدتك يحتوي على قطع فنية وثمرة إبداعات وفنون.
ولكن عندما تُقلّب في دولاب أختك تجد بين حاجياتها علباً تُحفظ فيها حقائب وأحذية، تكاد تتشابه في طريقة التصميم، وألوانها محدودة، وتُحفظ بعناية مغلّفة بالأوراق والأقمشة، وما تلبث أن تفتح علبة وتلمس إحدى الحقائب لتسمع صراخ أختك يعلو، احذر فأنت ستخدش الشنطة، وكأنك أمسكت بزجاج رقيق، لا تستغرب فالعذر كل العذر مع أختك فتلك الحقائب رديئة الصنع، فهي مصنوعة من جلود ومواد ضعيفة بحيث تُخدش وتتقشّر بسهولة، ورغم ذلك يُقال إنها حساسة، وليست رديئة.
لا تعجب ففي العقود الأخيرة، شهدنا تحوّلاً واضحاً في أولويات الأفراد والمجتمعات، فهم يتجهون نحو الاهتمام بـ"الماركات" التجارية العالمية على حساب تقدير الفنون مثل: الرسومات والمنحوتات. فهذا التحوّل يعكس تغييرات أعمق في الذوق المجتمعي والقيم الثقافية، حيث أصبح الاستهلاك والرمزية المادية يحظيان بالأولوية. واتجه الناس نحو السلع التي تحمل علامات تجارية مُرَوَّجاً لها وابتعدوا عن السلع المصنوعة بفن وإبداع، فالذوق المجتمعي قد تحوّل من تقدير الفنون وتذوقه إلى الجري وراء الشهرة والترويج التجاري.
لقد تراجع توظيف الناس للفنون في الصناعات، فلا تجد أثر الإبداعات في الرسم على الأحذية والحقائب، والأقمشة، ولا تجد فنون النحت على قطع الأثاث، أو جدران المباني، تلك أزمة حضارية حيث ضعف وعي الناس الثقافي الفني، وشُغلوا بالحياة المادية، فتراجُع الاهتمام بالفنون كجزء من الهوية الثقافية يُعدّ تراجعاً حضارياً، فقد قلت المبادرات والأنشطة التي تسلّط الضوء على الفنون وتدعم الفنانين المحليين. وقد شُغل الناس بالتكنولوجيا عن الفنون والحرف اليدوية حيث استُبدلت اللوحات والمنحوتات بمنتجات رقمية. وقد ركّز الناس على الاستهلاك السريع، حتى فقدت الفنون التقليدية جاذبيتها أمام الجمهور الذي يبحث عن الأشياء العصرية، ونسي الناس أن الفنون هي تعبير عن المشاعر والأحاسيس، وفي قراءتها غذاء للروح. فالفنون ليست مجرد ترف، بل هي مرآة تعكس هويتنا وروحنا كمجتمع.
إلا أن هناك جانباً مضيئاً علينا ألا نغفله، فهناك عودة إلى الشباب لإحياء الفنون وإدخالها في الصناعات مثل صناعة المجوهرات حيث ظهر جيل من الشباب يهتم بتطوير التصاميم القديمة في المشغولات الذهبية، وكذلك ظهر عدد من المصممات للأزياء اعتمدن في تصاميمهن على الفنون والتصاميم التراثية القديمة، وبينما تظل الماركات جزءاً من الثقافة الاستهلاكية الحديثة، فإن تحقيق التوازن بينهما هو السبيل للحفاظ على أصالتنا الثقافية وإبداعنا الثقافي. ودمتم سالمين.
0 تعليق