في كل صباح، عندما نبدأ يومنا بتصفح سريع لوسائل التواصل الاجتماعي، نجد أنفسنا محاطين بسيل من مقاطع الفيديو التي قد تنقلنا من خبرٍ مثير إلى قصةٍ عاطفية. في هذا العالم الرقمي المزدحم بالمعلومات، قد ننجرف وراء ما نراه دون أن نتساءل: هل هذا المشهد حقيقي أم أنه مجرد خدعة رقمية صُممت بدقة لخداع أعيننا؟
خلال السنوات الأخيرة، ظهرت تقنية جديدة تُسمّى "التزييف العميق" (Deepfake)، وهي ليست مجرد ابتكار عابر في مجال الذكاء الاصطناعي، بل نقلة يمكن أن تُغيّر مفهومنا عن الحقيقة بالكامل. تعتمد هذه التقنية على خوارزميات متقدمة تُنتج مقاطع فيديو وصوراً وأصواتاً يصعب تمييزها عن الواقع. تخيّل أن ترى رئيساً أو شخصيةً فنيةً شهيرةً تدلي بتصريح صادم، ثم تكتشف لاحقاً أن كل ما شاهدته لم يكن إلا محتوى مُزيّف تم إنشاؤه في دقائق بواسطة برامج متطورة!
في البداية، استُخدمت هذه التقنية في مجالات الترفيه وصناعة السينما بهدف تحسين المشاهد أو محاكاة شخصيات معينة، لكنها اليوم أصبحت تؤثر على مجالات أكثر حساسية، مثل السياسة والاقتصاد والإعلام. ولعل المثال الأبرز ما حصل حين انتشرت صورة مزيفة تُظهر انفجاراً قرب البنتاغون، ما أدى إلى تراجع سريع في الأسواق المالية وسط تدافع الشائعات، قبل أن يتبين لاحقاً أن الصورة مجرد تلاعب رقمي.
ولا يتوقف الأمر عند السياسة والاقتصاد فقط؛ فقد باتت هذه التقنية تهدد حياة الأفراد أيضاً. يستغل بعض المجرمين الرقميين "التزييف العميق" في ابتزاز ضحاياهم أو الإساءة إلى سمعتهم بنشر مقاطع مفبركة على الإنترنت. وحتى المشاهير لم يسلموا من هذه الظاهرة، إذ تُنشر إعلانات احتيالية تحمل وجوهاً وأصواتاً تبدو حقيقية، لكنها في الواقع مجرد إنتاج برمجيّات بارعة في التلاعب بالمحتوى.
ومن هنا تنبع أهمية التوعية والتفكير النقدي في تعاطينا اليومي مع المحتوى الرقمي. يجب أن نتوقف قليلاً قبل تصديق كل ما نراه، وأن نعتمد على مصادر موثوقة للتحقق من الأخبار. هناك بالفعل مؤشرات تساعدنا في كشف المحتوى المفبرك، مثل عدم اتساق حركات الوجه أو اختلال الإضاءة والتركيز. ومع ذلك، فقد وصلت قدرات الذكاء الاصطناعي إلى مستوى متقدم لدرجة تجعل بعض المقاطع فائقة الدقة يصعب تمييزها حتى الخبراء.
في نهاية المطاف، لا ينبغي تجاهل قوة "التزييف العميق" وتأثيره المحتمل على تغيير الأحداث في لمح البصر. إن تعزيز ثقافتنا الرقمية والالتزام بالتفكير النقدي هما خط الدفاع الأول في مواجهة هذا العالم الذي تختلط فيه الحقائق بالأوهام. فليس كل ما يلمع ذهبًا، ولا كل ما تشاهده العين على الشاشة حقيقة. ابحث، تحقق، وفكّر قبل أن تُصدّق.
* خبير تقني
0 تعليق