تابعت فـي الأيام السابقة الجدل الذي أثارته مقابلات أجريت لسعد البازعي وأسامة المسلم فـي برنامج «مخيال» إذ يقول الأول: إن ما يكتبه المسلم لا يُعدّ أدبًا، وإن ذائقته تأنف هذه الكتابة، فـيما يعتبر المسلم موقف البازعي مبررًا لانفصاله عن الواقع، و«ديناصوريته» أي التقاليد التي يؤمن بها وقدمها وعدم صلاحيتها للوقت الحالي، وكان المسلم قد أشار غير مرة إلى أن «الهجوم» الذي يتعرض له نابعٌ من الحسد والغيرة.
أولًا: يصرُّ مقدم البرنامج على دفع البازعي إلى منطقة لم يقف البازعي نفسه عليها، فـيقول له: إن فـي رأيه مصادرةً لذائقة أخرى أو انحيازًا وما شابه ذلك من أوصاف، إلا أن البازعي يصرُّ على أن ذلك هو رأيه، وهو لا يمتلك الحق فـي أن يوقف الكاتب فكيف للرأي أن يوقف شيئًا ما! وما يغيب عن نظر كثير من الذين تابعوا هذا الحوار، أن ما يضمره من قدرة إنسان واحد وسلطته على مصادرة وجود إنسان آخر وما ينتجه، هي أزمة لا علاقة لها لا بالأول ولا الثاني، بل بمخيالنا عما يعنيه إبداء الرأي وحرية التعبير وبالفضاء الذي يحكمنا، وبقدرة كل صاحب موقف أن يجد له مكانًا فـيه.
ثانيًا: لطالما كانت الذائقة الأدبية محل نزاع فعلى ماذا يتم الاستناد، وما المرجعية التي تحدد أهمية نص وجمالياته دون نص آخر، وقد ناقشها العديد من الكتّاب مثل كتاب «تجربة فـي النقد» لسي أي لويس الناقد والكاتب البريطاني، وقد قدمتُ مراجعة مستقلة عنه فـي عمودي الصحفـي هذا. وكانت أبرز أفكار الكتاب هي المواقف أن النظرية الأدبية أُنتجت من مواقف ابستمولوجية مختلفة، أي من مواقع ومواقف معرفـية بعينها، وبهذا فإن شرطًا لنقد يرتبط بموقف معرفـي محدد.
وأقتبس من مقالي السابق «ركّز على التفريق بين ما يطلق عليه القارئ الأدبي والقارئ غير الأدبي، والفرق بينهما فـي حقيقة تقدير الأدب الذي يمتاز بها الأول، أما القارئ غير الأدبي فإنه عادة ما يميل لاستخدام الأدب. إذ يعد العمل الأدبي بالنسبة له مختبرا لاستخراج الحكم على سبيل المثال، أو مصدرا لعيش حلم اليقظة الأناني كما يسميه، إذ يغذي من خلال الأدب خيالات خاصة، غالبا ما تتمثل فـي حاجات الإنسان الأولى، ورغبته فـي الثراء، أو الحصول على الحب الرومانسي، وما إلى ذلك، يقول سي أي لويس «التعامل مع ما نقرأ بأنه يكون ما هو عليه فحسب لا بأنه يعني كذا وكذا. إنها ليست مجرد لوجوس (شيء قيل) ولكن بويما (شيء صُنع). أي القارئ الجيد يجب أن ينتبه للأشياء لذاتها كخطوة أولى)». ويجد أن الشرط الضروري لكل قراءة جيدة هي الانعزال التام عن ذواتنا. «... نسعى لتوسيع كياننا. نريد أن نكون أكثر من أنفسنا. يرى كل منا بطبيعته العالم كله من وجهة نظر واحدة من منظور وانتقائية خاصة به. وحتى عندما نبني خيالات نزيهة، فإنها تكون مشبعة بعلم النفس الخاص بنا ومحدودة بها.... نريد أن نرى بعيون أخرى، أن نتخيل مع تخيلات أخرى، أن نشعر بالقلوب الأخرى، وكذلك بقلوبنا». وليس هذا هو الموضوع الذي أريد أن أتناوله فـي هذه المقالة، فمسألة الذوق الأدبية ومعايير النقد ينبغي أن يُفرد لها مساحة أخرى.
أعتقد إذن أن هنالك نوعًا من التبسيط عندما نقرأ هذا الصراع من منظور التسابق على الاستحواذ على القارئ والاستيلاء على سوق النشر. الأمر ذاته عندما يبدو رفض هذه الرواية من منطلق أنها «رديئة» أو «رخيصة» نوعًا من الاستعلاء، وهنالك اتهام يزعجني على نحو خاص، وهو أن هنالك مشهدًا ثقافـيًا هشًا، لا يمكن أن ينتج إلا هذا النوع من الجدل والمنافسة.
أظن بأن مصدر هذا الانزعاج هو عدم استجواب الثقافة التي جعلت هذا الحوار موجودًا من الأساس، وتلك الأنواع من الآداب حاضرة. إنه يصرف النظر عن التحقيق فـي المنظومة ويقدم إجابة سهلة. إذن يمكن القول إن الأسئلة الجديرة بالتفكير لم ُتطرح بعد، وإننا ندور فـي حلقة من التملق للذات عندما نشعر ككتاب بأننا منفتحون حتى على وجود الأدب الرديء، متجاهلين الطريقة التي يفكر فـيها ذلك الأدب، ومساهمته فـي تعميق ما هو قبيح بطريقة ما فـي عالمنا.
لم تكن الأسماء التي طرحها سعد البازعي فـي المقابل إلا تلك الأسماء التي كرستها المنظومة أيضًا وكانت عبده خال وبدرية البشر وآخرين، وقد نفكر فـي أنه غير متابع للمشهد بالنظر إلى تقدمه فـي السن، لكن هذا يستدعي فورًا التحقيق فـي المنظومة أيضًا. وبهذا يصبح كلا الطرفـين متشابهين على نحو ما، إنهما لاعبون فـي اللحظة التاريخية هذه وما تفرضه من سياسة على كل شيء.
ما أريد قوله إنه ينبغي علينا أن نتقصى فـي هذا الجدل ما أنتجه أولًا، ثم نفكر فـي أهمية تدافع الأفكار وإثارتها فـي هذا الوقت وأهميتها للأدب ولنا.
0 تعليق