إن المنظرين للحريات العامة وحقوق الإنسان فـي الدول الليبرالية يعتقدون أن من مهام الصحافة وأجهزة الإعلام مراقبة وتقييم أعمال الحكومة، ويعتبر كثير من الساسة أن الصحافة والإعلام تشكل السلطة الرابعة فـي المجتمعات الديمقراطية بعد السلطات الثلاث المعروفة. ولذلك فإن الإعلام فـي الولايات المتحدة الأمريكية يمثل سلطة قوة جعلت من نفسها المورد الرئيس للمعلومات للشعب الأمريكي، وهي القادرة على تشكيل شخصيات الساسة وتحويلهم، فعلى سبيل المثال قام جاك كمب -لاعب كرة قدم- بتحويل شخصيته الرياضية إلى شخصية سياسية واستطاع الوصول إلى الكونجرس وتشجع لخوض الانتخابات عام 1988 وكذلك فعل رونالد ريجان الذي وصل من خلال شهرته باعتباره ممثلا إلى السياسة واستطاع الوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة لدورتين. ولذلك فإن العلاقة بين الساسة والإعلام - كما ذكر منذر الزبيدي فـي كتابه (دور وسائل الإعلام فـي صنع القرار السياسي)- صارت علاقة قوية، بل وانتفعت السوق الحرة من هذه المسألة ووُجدت شركات متخصصة فـي السيطرة على الرأي العام من خلال صنع طرق قياس الرأي العام وتوجيهه بحيث يقبل منتخبا ويرفض آخر، ويؤيد موقفا سياسيا ويرفض آخر.
استطاع الإعلام أن يجبر الدول والحكومات على الاهتمام بقضايا ومشكلات بقيت حتى وقت متأخر بعيدة عن دوائر الاهتمام السياسية، مثل قضايا حقوق الإنسان والتمييز العنصري والإرهاب والمرأة ومشاكل الأقليات وغيرها، وقد عمل الإعلام على إثارة المجتمعات والبيئات الداخلية للدول وتحويلها إلى بيئات عالمية، وهو الذي كان نتيجة للعولمة باعتبار العالمية عند شولت وهي تعني «انتشار الأشياء والاختبارات والثقافات التي تخص الشعوب فـي طول العالم وعرضه»، وهذا الأمر يؤثر بشكل كبير على السياسات المحلية وعلى الساسة فـي العالم. كما استطاع الإعلام أن يجعل العلاقات الدولية تضطرب. ولعل ما زاد هذا وضوحًا أنه استطاع أن يحدث اضطرابات بين الدول فـي المنطقة الواحدة حتى وإن كانت تتشارك الجغرافـيا والأنظمة السياسية والاقتصادية، بل واتفاقيات التعاون فـي مختلف المجالات.
يُمكن ملاحظة أن وسائل الإعلام تقوم بتغذية عملية صنع القرار بمعلومات تمثل المدخولات للعملية من خلال توجيه الاهتمام انتقائيا إلى جوانب معينة مع تجاهل جوانب أخرى، وهي بهذا الفعل تبني أجندة المجتمع وبالتالي أجندة صانعي القرار. يقوم الإعلام بهذه العملية من خلال نظرية ترتيب الأجندة التي كان قد نظّر لها مكومبس. ولعل الناتج الأبرز لهذه النظرية هو أن الدراسات الإعلامية شهدت تحولاً إلى دور الإعلام فـي ترتيب أجندة القضايا العامة عند الجماهير.
تساهم وسائل الإعلام فـي توفـير أغلب المعلومات القابلة للاستخدام داخل بيئة صانعي القرار ولذلك فإنها تصنع المعلومات داخل الحكومات الديمقراطية. ووفقا لدراسة قام بها مجموعة من الباحثين، استشهد بها بسيوني حمادة فـي بحثه المنشور عام 1987، درسوا فـيها دور وسائل الإعلام فـي وضع أولويات اهتمامات صانعي السياسة وجماعات الضغط والزعماء والجمهور، وجد الباحثون أن التغطية الإعلامية أثرت فـي إدراك الجمهور بحيث جُعلت القضية المطروحة فـي التغطية فـي أولويات هذا الإدراك. اعتمدت هذه الدراسة بالنسبة لتأثير التغطية الإعلامية على الساسة على أبعاد خمسة هي: مدى تأثير التغطية الإعلامية على إدراك الساسة، والنتيجة أن هناك تأثيرا قويا للتغطية الإعلامية فـي إدراك الساسة لأهمية القضية المطروحة، وذلك على المستوى الحكومي.
ومدى تأثير التغطية الإعلامية فـي إدراك صانعي القرار لحجم التأثيرات على الجمهور فـيما يخص تلك القضية، ونتيجة هذا أن صناع القرار يتأثرون بالتغطية الإعلامية، ومدى تأثير التغطية الإعلامية فـي اعتقاد صناع القرار بضرورة اتخاذ قرار لمواجهة القضية، ونتيجة هذا البعد أن الشعور لدى الساسة بأهمية تصحيح الأوضاع أو عدمه يتأثر بهذه التغطية، ومدى وجود علاقة بين الاعتقاد فـي مصداقية التغطية الإعلامية ودرجة التأثر بها ونتيجة هذا أن الارتباط إيجابي وقوي، وأخيرا مدى وجود تشابه بين نظرة الجمهور والساسة فـيما يتعلق بأهمية القضية المطروحة، ونتيجة هذا أن هناك تعميما فـي رؤية الجمهور العام باعتبارها خطيرة، أما الساسة فلم ينظروا بطريقة واحدة كما نظر لها الجمهور. يتضح من خلال هذه الدراسة والأبعاد المدروسة أن التغطية الإعلامية قادرة على التأثير فـي إدراكات وسلوكيات صناع القرار، حيث إن الإعلام يوجههم نحو قضية معينة من خلال ترتيب الأجندة ثم يكررها ويزيد من أهميتها سواء فـي إدراكات الساسة أو فـي إدراك الجمهور وبالتالي يوجّه صناع القرار إلى التحرك نحو حل تلك المشكلة أو التصرف بشأن القضية المطروحة سلبًا أو إيجابا، ومن الممكن ضرب مثال على هذا حدث أثناء القضية المعروفة عالميا بـ«قتل جورج فلويد» حين تم قتل شخص أسود من قبل شرطي أبيض فـي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد نالت هذه القضية تغطية إعلامية ضخمة سواء من الإعلام الجماهيري أو من مواقع التواصل الاجتماعي، مما جعل الساسة يقومون ببعض القرارات التي تهدف لوقف المظاهرات التي انطلقت عقب الحادثة، ومن شدة تأثير الإعلام فـي القضية خرج الشرطي القاتل وطالب بمحاكمة عادلة مدعيا أن التغطية الإعلامية قد حرمته منها.
ولأخذ مثال على التأثير الإعلامي على صناعة القرار والسياسات، يُمكن أخذ مثال على تأثر السياسة الخارجية الأمريكية بقناتين مهمتين هما الجزيرة وسي إن إن، وقد جاء اختيار القناتين كونهما من أهم القنوات الإعلامية العالمية التي تؤثر فـي السياسات الخارجية للدول. بالنسبة لتأثير الجزيرة فهو مصطلح يستخدم فـي الدراسات السياسية والإعلامية للإشارة لتأثير وسائل الإعلام الجديدة على السياسة العالمية. ويصف تأثير وسائل الإعلام العالمية الجديدة على المجتمع العالمي. تنص نظرية تأثير الجزيرة على أن وسائل الإعلام الجديدة تمكنت من احتكار الحكومة ووسائل الإعلام الرئيسة للمعلومات، كما عملت على تمكين مجموعات كانت تفتقر فـي السابق إلى صوت عالمي. وأهم مثال على هذا التأثير هو تأثير الجزيرة.
يولّد تأثير الجزيرة تأثيرات متسارعة ومحددة لجدول أعمالٍ معيقٍ للحكومات. إن للجزيرة تأثيراً على الخطاب السياسي الدولي. يعتبر فـيليب سيب فـي كتابه (تأثير الجزيرة: كيف يعيد الإعلام العالمي الجديد السياسة العالمية) أن تأثير الجزيرة جزءٌ من نظام إعلامي جديد، يتضمن البث عبر الأقمار الصناعية والتكنولوجيا. يقول سيب: إن الاتصال بين وسائل الإعلام الجديدة يحل محل الروابط السياسية التقليدية التي صنعت الهوية للسياسة العالمية. إن إعادة تشكيل النظام العصبي العالمي يسير بسرعة ملحوظة، ويتوسع نطاقها بشكل مطّرد. إن هذه التغيرات تتعلق بطريقة تفاعل الدول والمواطنين مع بعضهم البعض وتعطي الفرد فرصة جديدة من الاستقلال، على المستوى الفكري الفردي على الأقل، بسبب توفر المعلومات بشكل أكبر».
أهم ما يميز تأثير الجزيرة هو أنها تغير وجهات النظر وتخلق توازنا فـي بيئة الإعلام والاتصالات الدولية. لذلك فمصطلح تأثير الجزيرة لا يشير إلى قناة الجزيرة فحسب، بل ينطبق على جميع وسائل الإعلام الجديدة التي تمكنت من جذب الجماهير وتعطيل الاحتكار المعلوماتي لوسائل الإعلام الرئيسة.
يُمكن القول، إن الجزيرة قادرة على التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية من خلال إظهار السياسات الخارجية الأمريكية بمظهر سيئ يُمكن أن يقلل من شعبيتها فـي الرأي العام الدولي ويعيق سياساتها وحروبها الدولية. خلال حرب العراق عام 2003، شكلت الجزيرة عائقا أمام القوة العسكرية الأمريكية، ولذلك بدأ التحالف فـي ضرب طاقم الجزيرة مما أدى إلى مقتل مراسل الجزيرة طارق أيوب. إن هذا يُمكن أن يُعتبر هجومًا مباشرًا على الجزيرة.
من الجوانب الأخرى لتأثير الجزيرة على السياسة الخارجية الأمريكية هو شعبيتها الكبيرة بين العرب والمسلمين، وبالتالي يمكنها تشكيل آراء هذا الجمهور ضد السياسات الأمريكية. فالحدث الواحد يُمكن أن يؤثر على هذه الفئة بشكل أكبر إذا تم بثه على قناة الجزيرة. وعلى الرغم من قدرتها على التأثير إلا أن الجزيرة تواجه سلبيات مهمة تقلل وتعيق نفوذها. على سبيل المثال فـي أمريكا عدد قليل من الناس الذين يُطالعون التلفزيون وهذه الفئة موجودة غالبا فـي واشنطن وفـي أماكن مثل توليدو وأوهايو وبرلينغتون بحسب مركز بيو للأبحاث، ولذلك فإن المواطن الأمريكي إذا أراد الاطلاع على الجزيرة فإن عليه البحث فـي الإنترنت، مع الوضع بعين الاعتبار العدد القليل جدا من الأشخاص الذين يريدون سماع وجهات النظر المختلفة، فعلى سبيل المثال قابل الأمريكيون التقارير التي بثتها الجزيرة عن الأُسر التي تعاني من الحرب على العراق بالانزعاج واعتقدوا أن هذا تأييد للإرهاب ومعاداة أمريكا، لذلك أثارت هذه التغطية اتهامات للجزيرة بأن لها صلات بجماعات إرهابية. لكن سؤالا فـي هذه الحالة يُمكن أن يُطرح وهو كيف ينظر الأميركيون اليوم لهذه المسألة لا سيما مع خروج الطلبة فـي الجامعات لمعارضة السياسات الأمريكية الداعمة لإسرائيل، وتأثير ذلك على الانتخابات الأخيرة؟
أما تأثير «سي إن إن» فقد أجرى جوينج فـي عام 1994 دراسة استقصائية مع العشرات من المسؤولين البريطانيين والأمريكيين فوجد أن كل مسؤول قد اتفق مع وجهة النظر القائلة بأن ظهور شبكة «سي إن إن» قد غير بشكل جذري الطريقة التي تدار بها السياسة الخارجية الأمريكية. كذلك قال أمين عام الأمم المتحدة السابق بطرس بطرس-غالي أن تأثير سي إن إن قادر على تغيير نتائج القرارات السياسية، بل أضاف إنه يُمكن اعتبار «سي إن إن» العضو السادس عشر فـي مجلس الأمن. إن التدخل الأمريكي فـي الصومال يُشكل واحدا من أبرز الأمثلة على التفاعل بين صناعة السياسات الخارجية الأمريكية وتأثير «سي إن إن». فقد ركزت سي إن إن يوميا على الأطفال الجائعين فـي الصومال، وحشدت بذلك ضمير المؤسسات العامة فـي أمريكا، وأجبرت الحكومة (أو سهلت لها) على اتباع سياسة التدخل فـي الصومال «لأسباب إنسانية». لذلك فإن شاتوك يؤكد أن وسائل الإعلام هي التي أدخلت الحكومة الأمريكية إلى الصومال. المفارقة التي تحدث هنا هو أن أزمة حادة بالمستوى نفسه حدثت فـي السودان أثناء أزمة دارفور وما قبلها، لكن الحكومة الأمريكية لم تتدخل كون أن وسائل الإعلام لم تغطِّ الحادثة.
يتضح من هذا أن هناك خطرا كامنا فـي هذا التأثير وهو جعل الحكومة تتصرف بناء على تبثه الشبكة، والذي قد يتعارض فـي أحيان معينة مع المصالح الوطنية للدولة القومية (أمريكا فـي هذه الحالة)، فإن لم تكن «سي إن إن» صانعة للقرار فإنها على أقل تقدير تساهم فـي تسريع عملية اتخاذ القرار. فـي المحصلة، يُمكن القول إن الإعلام له تأثير كبير على صنع السياسات فـي الدولة القومية سواء السياسات الداخلية أو الخارجية، والواقع أن الإعلام قادر على التأثير فـي الأحداث السياسية لا سيما فـي فترات التحول الديمقراطي الذي يصاحبه ثورات شعبية. كما يُمكن الاستنتاج أن وسائل الإعلام قادر على التأثير على إدراك صُنّاع القرار الذين بدورهم يتلقون المعلومات من خلالها وبالتالي يتصرفون بناء على هذه المعلومات المعطاة.
0 تعليق